وولفغانغ باولى Wolfgang Pauli هو من الفيزيائيين الافذاذ واننى كنت اعلم ذلك منذ عرفت اسمه اول مرة قبل 30 سنة لكننى اصبحت اليوم اعلم ذلك علما أجل من علمى به القديم.
وعلاقته بكارل جونغ Carl Jung هى من اعظم العلاقات الانسانية-و-المعرفية-والعلمية التى قرأت عنها شخصيا.
وهذه العلاقة ابتدأت كعلاقة علاجية بين طبيب و مريض بعد ان انهارت حياة باولى بانتحار امه و زواجه السريع و طلاقه الاسرع من راقصة ثم ادمانه على الكحول.
وبالمناسبة فان كارل جونغ هو مؤسس اندية ال AA اى alchoholic anonymous الامريكية التى تعنى بمحاربة الادمان من الكحول عبر التلاقى الدورى بين الذين يعانون من هذا المرض الفتاك.
اما باولى فهو حقيقة شخصية صعبة قليلا او كثيرا فهو ناقد لاذع كان يسميه زملائه (سوط الله Whip of God) و بعضهم يسميه (باولى الرهيب Pauli the terrible) و غيرها من الالقاب.
فهو ناقد بارع عميق قدم مثلا نقدا هائلا لنسبية اينشتاين وعمره 21 سنة بهت امامه اينشتاين.
وكان من الافذاذ الاوائل للميكانيك الكمومى.
فهو اول من حسب طيف ذرة الهيدروجين باستعمال الميكانيك الكمومى المصفوفى الحديث الذى كان وضعه هايزنبرغ قبل ذلك ببضعة اشهر.
وهايزنبرغ هو زميل باولى فى الدراسة فقد كانا تلميذين معا عند سومرفالد هذا الاخير الذى كان صديق بوهر و زميله فى وضع (النظرية الكمومية القديمة).
وعندما أتى باولى و حل ذرة الهيدروجين فانه وقع فى مأزق كان قد وقع فيه قبله الكثير و لم يجدوا له حلا.
وهو كيف يمكن توزيع الالكترونات على المستويات الطاقوية لذرة الهايدروجين. وهذه مسألة مهمة ليس فقط للهيدروجين بل لكل العناصر الكيميائية الاخرى.
اذن حالة الالكترون تتميز باربعة اعداد كمومية هى العدد الكمومى الرئيسى principal quantum number (الذى يعبر عن المستوى الطاقوى للالكترون), العدد الكمومى المدارى orbital angular momentum (الذى يعبر عن الحركة الدورانية للالكترون فى الذرة), العدد الكمومى السمتى azimuthal quantum number (الذى يعبر عن اتجاه العزم الزاوى للالكترون) و العدد الكمومى المغناطيسى magnetic quantum number (الذى يعبر عن اتجاه عزم-لف الالكترون).
اذن حتى تتوزع الالكترونات على المستويات الطاقوية فانها يجب ان تحقق شيئا اسمه (مبدأ الاستبعاد لباولى Pauli's exclusion principle) اى لا يمكن لأى الكترونين ان يتميزا بنفس الاعداد الكمومية الاربعة الآنفة الذكر وهذه هو معنى انه لا يمكن لاى الكترونين ان يحتلا نفس الحالة الكمومية.
هذا مؤكد تجريبيا وهو يعطى الجدول الدورى للعناصر الكيميائية بالكامل.
بعد سنوات عام 1940 باولى نفسه قدم تفسيرا لمبدأ الاستبعاد حيث ربط بين عزم-لف الجسيم او السبين spin و بين احصاء statistic الجسيم.
هذه واحدة من اعمق مبرهنات الميكانيك الكمومى تسمى مبرهنة السبين-و-الاحصاء spin-statistic theorem.
اذن من اجل الجسيمات ذات عزم-اللف الذى هو عدد نصف-صحيح half-integral (مثلا الالكترون الذى يتميز بعزم-لف يساوى نصف) فان دالة الموجة يجب ان تكون متناظرة-عكسيا anti-symmetric وهذا يعنى انها يجب ان تحقق احصاء فرمى-ديراك Fermi-Dirac statistics. اذن مبادلة اى جسيمين سيعطى اشارة ناقص. هذا هو الذى يعطى مبدأ الاستبعاد.
لكن من اجل الجسيمات ذات عزم-اللف الذى هو عدد صحيح integral فان دالة الموجة يجب ان تكون متناظرة symmetric و هذا يعنى انها يجب ان تحقق احصاء بوز-اينشتاين Bose-Einstein statistics. اذن مبادلة اى جسيمين يعطى اشارة موجبة. وهذا هو الذى يعطى مثلا ظاهرة الليزر و ظاهرة تكثف بوز-اينتشاين التى هى اساس المائعية-الممتازة superfluidity.
اذن مبدأ الاستبعاد هو حالة خاصة من مبرهنة السبين-و-الاحصاء.
وبمكننا ان نرى هذا الامر مباشرة عندما نقوم بتكميم مجال ديراك. حيث انه لو تجرأنا و افترضنا ان مبدأ الاستبعاد غير متحقق و قمنا بالتكميم فاننا سنجد انه لا توجد طاقة اساسية للالكترون. هذا تمرين قام به بسكين Peskin فى صلب كتابه لاهمية الموضوع المحورية لنظرية المجال الكمومى.
ولهذا فاننا نستعمل فى تكامل الطريق لفايمان Feynman path integral الخاص بالالكترون و مجال ديراك (والفرميونات بصفة عامة) الاعداد الغراسمانية Grassmann numbers و ليس الاعداد المركبة.
اذن مبدأ الاستبعاد لباولى هو الذى سمح لباولى بتفسير الجدول الدورى للعناصر الكيميائية باستعمال الميكانيك الكمومى.
يعد سنوات طويلة عندما كان غال-مان Gell-Mann بصدد وضع (نموذج الكوارك quark model) الذى هو الجدول الدورى للجسيمات الاولية فانه وجد ان البروتون مثلا (او اى هادرون hadron آخر) يجب ان تحقق الكواركات المشكلة له مبدأ الاستبعاد لباولى اذن يجب ان تكون دالة الموجة متناظرة-عكسيا.
لكن غال-مان لاحظ ان دالة الموجة بالنسبة للبروتون هى جداء ثلاث اشياء هى الفضاء space و عزم-السبين spin و ما يسمى النكهة flavor و هى كلها متناظرة فمن اين اذن نحصل على التناظر-العكسى.
هنا تجرأ غال-مان وهو عبقرى آخر على افتراض ضرورة وجود عدد كمومى رابع تكون دالة الموجة متناظرة-عكسيا بالنسبة اليه. هذا العدد الكمومى هو ما يعرف اليوم ب (اللون color) وهى فعلا خاصية مميزة اساسية للكوارك (انظروا منشورات فيزياء الجسيمات الاخيرة).
اذن مبدأ باولى للاستبعاد هو السبب الذى ادى الى اكتشاف (اللون) الذى هو الشحنة النووية القوية.
وباولى هو من تنبأ ايضا بالجسيم الشبح (النوترينو) و قد حكيت هذه الحكاية من قبل. لكن باولى اخذ نوبل على (مبدأ الاستبعاد) فهو فعلا اهم بكثير و اعمق و اغمض.
اذن كما ترون مبدأ الاستبعاد ليس شيئا هينا. بل هو مبرهنة السبين-و-الاحصاء فى ابسط صورها. و السبين-و-الاحصاء هو مبدأ التناظر symmetry فى ابسط صوره.
و التناظر هو (اله باولى) الذى رجع عنه عندما حانت وفاته و رجع الى (الله) كما تؤمن به اليهودية فباولى يهودى (كغيره كثير من الفيزيائيين النظريين).
اذن عند الموت فانه لا يكفى لا تناظر و لا اى شيء آخر فكل شئ سيفقد معناه و لا يبقى الا الله.
وباولى عندما مرض مرض الوفاة (وهو السرطان اعاذنا الله و اياكم) ودخل الى المستشفى ادخل الى الغرفة رقم 137.
لكن واحد تقسيم 137 هو ثابت البنية الدقيقة fine structure constant الذى يتحكم فى جميع التفاعلات الكهرومغناطيسية فتشائم باولى وقال (لن اخرج ابدا من هنا) وهذا فعلا الذى وقع.
فباولى كان يؤمن ب (التزامن synchronicity) و التشاؤم و التفاؤل تزامن.
لكن (مبدأ الاستبعاد) نفسه مبدأ لاسببى acausal ففسره بيت Peat وهو تلميذ بوهم Bohm (فى كتابه عن التزامن الذى عنوانه -التزامن جسر بين المادى و العقلى-) بأنه تزامن وهذا تفسير جيد. وبوهم كما تعرفون هو فيزيائى فذ آخر و هو على ما يبدو من المؤمنين ايضا بهذا التزامن الذى يصعب فهمه جدا.
فالتزامن هو (علاقات لاسببية تجمع بين الحوادث من اجل الغاية و المعنى) كما عرفه جونغ.
لكننا نؤكد ان (مبدأ الاستبعاد) ليس قوة و فقط القوى هى العوامل السببية. اذن (مبدأ الاستبعاد) هو ربط لاسببى وهو بالضبط قيد او شرط على الحالات المسموح بها للجملة.
و(مبدأ الاستبعاد) كما تعلمون هو اساس النجوم النوترونية و الالكترونية و الكواركية فهو الذى يتغلب على قوى الانهيار الثقالية الهائلة فى هذه الحالات لكننى اؤكد مرة اخرى ان الاستبعاد هو ليس بقوة سببية بل هو قيد لاسببى (وهذا افضل ما عندى حاليا فى فهم التزامن عبر مثال مبدأ الاستبعاد).
ومن علاقات التزامن التى تذكر و تحكى (لكن كنكتة) هو ما يسمى (تأثير باولى Pauli effect) فان باولى وهو نظرى عملاق يحكى عنه انه كلما دخل الى مختبر تجريبى فان احدى الالات سوف تنكسر و تتعطل بدون اى سبب يذكر. وهذا يسمى تأثير باولى.
اذن باولى يؤمن بالسببية التى تتحكم فى الميكانيكية (ميكانيكية المادة) لكنه يؤمن ايضا بالتزامن الذى يتحكم فى اللاميكانيكية (لاميكانيكية الحياة و الوعى).
و التزامن يسميه باولى (اشعاعية اللاوعى). فكما ان الذرة المشعة سوف تتهافت فى لحظة عشوائية لكن كل ذلك التهافت له معنى و غاية هى القوة النووية الضعيفة فكذلك اللاوعى فان تأثيره هو تأثير عشوائى لا سببى لكنه تأثير بمعنى و غاية هو هذا التزامن.
اذن التزامن يجب توحيده مع السببية مثلما انه يجب توحيد الفضاء و الزمن مثلما انه يجب توحيد الطاقة العادية طاقة-المادة مع الطاقة القطرية طاقة-الحياة.
فهذا هو رأى باولى الذى بلوره مع جونغ.
No comments:
Post a Comment