الهدف الأول لهذا الكتاب هو عرض فيزياء و رياضيات اكثر الفيزياء الحديثة اساسية: الكمومى و الزمن,عرضا مبسطا فى متناول القارئ المثقف غير المختص,
لكن هناك هدف آخر اصعب نود تحقيقه وهو عرض الميتافيزقيا الجديدة التى سوف
نتعرض لها ضرورة عند مناقشة هذين الامرين العميقين فى الفيزياء الحديثة.
هذه الميتافيزيقا هى فى الحقيقة نوع من الكلام الجديد الذى هو استمرارية
طبيعية للكلام القديم الفلسفى - المعتزلى - الاشعرى - التيمى لكنه كلام
مرتكز على فيزياء
نظرية و تجريبية مضبوطة و رياضيات اكثر ضبطا ونحن لا
نفعل فى هذا الكلام أكثر من ان نحاول ان نعطى تفسيرا فلسفيا منسجما مع
الكلاسيكية الارسطية - الكانطية للذى نراه فى الرياضيات و المعادلات
المترجمة لما نراه فى التجربة و الحس.
اذن فى هذا الكتاب سنعرض بشكل مبسط قدر المستطاع كثير من الامور الخاصة ب:
الميكانيك الكمومى و النسبية الضرورية لفهم العالمين: عالم الجسيمات
الاولية - ما دون النواة- اللامتناه فى الصغر و عالم الكونيات - ما وراء
مجرة درب التبانة- اللامتناه فى الكبر وكل ما تعلق بهما من المبادئ
الفلسفية و الطبيعية المغروسة فى العقل الانسانى الكلاسيكى مثل الحتمية و
السببية و النسبية و الموضعية و مبادئ التناظر و قوانين الانحفاظ, و كيف
يستعمل كل ذلك فى تفسير القوى الكونية و هندسة الفضاء - زمن و قوة الجذب
الثقالى و غيرها, و كذلك سنتعرض للموضوع الاعمق للثقوب السوداء الذى سوف
يرجع بنا دائرة كاملة من نظرية النسبية للثقالة و الزمن الى الميكانيك
الكمومى والعكس.
الهدف الاسهل نسبيا فى هذا الكتاب هو اذن الفيزياء
الاساسية و الهدف الاصعب هو الموضوع الصعب للفيزياء الفلسفية التى هى
نتيجة حتمية لاى نقاش فيزيائى للكمومى و الزمن.
أهم ما نريد ان
نعرضه عن الكمومى هى تفاسيره الاربعة الكبرى: مدرسة الكوبنهاغن, عديد
العوالم, التواريخ المنسجمة و التفسير البوهيمى بالاضافة الى كثير من غرائب
وعجائب العالم الكمومى وكيف تقوم كل فيزياء الجسيمات الاولية على نظريات
الحقول الكمومية و على التناظرات الموضعية و الشاملة الكمومية. وسنتعرض
بالنقاش ايضا للمبادئ العميقة للحتمية و السببية و الموضعية و كيف يظهر كل
ذلك تحت مجهر الكمومى.
ايضا فى هذا الاطار سنقدم اهم النتائج
الفيزيائية و الرياضية النوعية للميكانيك الكمومى مثل تجربة اينشتاين -
روزن - بولدسكى المعروفة باسم ال EPR,
تجربة الاختيار المؤجل لويلر, تجربة اسباكت, وغيرها, وكذا متراجحات و مبرهنة بال
التى هى ربما الحكم الرياضى و التجريبى الوحيد فى كل الميتافيزيقا القديمة
و الحديثة, و كل هذه النتائج تنحى فى اتجاه واحد هو عدم واقعية دالة
الموجة, وعدم موضعية الميكانيك الكمومى, وتهديد السببية, و اللاحتمية عوض
الحتمية. بعبارة اخرى فان العالم فى حقيقته ليس كما يظهر لحواسنا و كل
العقلانية الكلاسيكية من عهد ارسطو الى عهد كانط و ويتغنستاين هى محل شك او
ريب.
أما بالنسبة للزمن فمن اهم ما نريد ان نعرضه بالاضافة الى
النسبية, ودور قوة الجذب الثقالى فى تحديد طبيعة الزمن و الفضاء - زمن, هما
معضلتا السهم فى الزمن و تدفق الزمن.
مثلا فاننا سنتكلم باستفاضة عن
دور المبدأ الثانى للترموديناميك فى تحديد السهم فى الزمن و ايضا دور
الشروط الابتدائية الخاصة جدا التى كانت فى بداية الكون.
لكن فى
الاخير - كما سأنبه- ربما سنكتشف ان المكان اى الفضاء هو اكثر اساسية من
الزمن وهى احدى نظرات هاوكينج التى لم تتلق العناية و الاهتمام الكافيين.
وعليه فاننا سنتكلم ايضا عن المكان او الفضاء و كيف ينبثق و معه كل العالم
المادى اى ما يعرف بظواهر الانبثاق التى هى احدى النتائج الحديثة لنظرية
الاوتار.
بالاضافة الى كل هذا فاننا سنناقش باستفاضة كثير من الامور الخاصة بالكون و بالثقوب السوداء التى يمتزج فيها الكمومى بالنسبية.
فالبنسبة للكون سنحاول ان نشرح بشكل مبسط اهم خصائصة على الاطلاق:
الانفجار الاكبر, التضخم الكونى, التوسع, تسارع التوسع, قدر الكون, نهاية
الكون, طوبولوجيا الكون, و ايضا مكوناته من الطاقة المظلمة و المادة
المظلمة وغيرهما.
ايضا قدمت تفصيل هائل فى الثقوب السوداء - ربما
لاول مرة باللغة العربية-وكيف نحتاج فى هذه المسألة الى كل من الميكانيك
الكمومى و النسبية فى آن معا, اى نحتاج فيها بالاحرى الى ما يعرف باسم
الثقالة الكمومية التى تبقى نظرية غير معروفة لحد الآن. ففى هذه المسألة
مسألة الثقب الاسود - وهى المسالة الوحيدة فى كل الفيزياء- نجد تعارضا
شديدا وربما تناقضا بين مبدأ الاحادية الذى يقع فى اساس الميكانيك الكمومى و
مبدأ التكافؤ الذى يقع فى اساس النسبية العامة وهذا هو لب الصعوبة الشديدة
التى يواجهها العلماء فى ايجاد نظرية الثقالة الكمومية التى توحد بين
القوى الاربعة فى الكون وايضا توائم بين الكمومى و النسبى بحيث يمكن وصف
الثقالة كموميا كغيرها من القوى.
و من اهم الخواص التى ناقشناها
بخصوص الثقوب السوداء هو كيف ينشأ الثقب الاسود من الانهيار النجمى,اشعاع
هاوكينج و تبخر الثقب, معضلة ضياع المعلومات فى الثقب التى تنشأ من كون
الثقب ليس جملة حرارية عادية فهو جملة تتوفر على افق: اى يتوفر على حدود
للفضاء و الزمن, وايضا معضلة ترموديناميك الثقب و ماذا يحدث للزمن داخل
الثقب و طبيعة المفردة المخفية فى مركز الثقب.
ولان الرياضيات هى
العمود الفقرى لكل الفيزياء النظرية فاننا سمحنا لانفسنا ايضا بعرض كثير من
النتائج البحتة و التطبيقية ذات الاهمية للفيزياء و بنفس الطريقة اى
بطريقة مبسطة نتفادى فيها المعادلات قدر الامكان. ثم تناولنا بالشرح بعض
القضايا
فى فلسفة الرياضيات حتى يعرف المرء الحدود الحقيقية الموضوعية لهذا
المجال الذى تقوم عليه كثير من نتائج الكمومى و النسبية التى ادت الى معضلات ميتافيزقية مستعصية.
وكما سنرى حتى الرياضيات نفسها فانها نسبية و ليست مطلقة - وهذا هو رأى
ويتيغنستاين- و تعانى هى الاخرى من اسقاطات ميتافيزقية لا تقل خطورة عن
الاسقاطات الميتافيزقية للكمومى و الزمن.
على ان اشير من الآن اننا
لم ننجح بالكلية فى التخلص تماما من تضمين المعادلات خلال بعض الشروح فى
هذا الكتاب, فهى - اى المعادلات- شر لا بد منه, و تضمينها يعبر فى الحقيقة
عن قلة حيلتنا فى بعض المواقف, عندما تخوننا اللغة خلال أداءنا لفكرة صعبة
صعوبة حقيقية ذاتية.
رغم هذا اقول ان عدد المعادلات محدود, مقارنة
بكم المعلومات المحتواة فى هذا الكتاب, لكن يبقى من واجبى ان أحذر انها
موجودة, لكن اضيف ايضا واقول ان وجودها
غير ضروري جدا لتحقيق الفهم.
وكما يقول بنروز فى مثل هذه الحالات على القارئ الذى لا يستطيع ان يتابع
المعادلات ان لا يعير هذه الاخيرة اى اهتمام و يحاول ان يركز على فهم
المطلوب من النص ومن النسق العام فهو دائما أمر ممكن رغم كل شئ.
عنوان الكتاب الذى اخترته بعد تفكير طويل:
حول فلسفة الكمومى و الزمن.
وقد قسمناه فى البداية الى اربعة اقسام:
فلسفة الكمومى و المادة, فلسفة الزمن و الكون, بعض من الرياضيات و فلسفتها, ومدخل الى فلسفة العقل و الوجود.
أما الرياضيات, كما قلنا آنفا, فهى اللغة الطبيعية للفيزياء الاساسية و
النظرية التى يقوم عليها كل هذا البناء و عليه فان فهمها و فهم فلسفتها اى
نقاط ضعفها - وهى موجودة- قبل نقاط قوتها مرتبط بشكل عضوى لا ينفصل بفهمنا
للنتائج العميقة التى يؤدى اليها الميكانيك الكمومى و النسبية حتى يمكننا
تقييمها - اى هذه النتائج الفيزيائية و الميتافيزيقية- التقييم العلمى
الصحيح و الفلسفى المقبول.
اما المدخل لفلسفة العقل فاننا قد
اضطررنا اليه لان الميتافيزيقا الجديدة التى تؤدى اليها الفيزياء الكمومية
بالخصوص تتحدى بشكل كبير تصوراتنا الكلاسيكية للوجود المادى و علاقته
المتداخلة تأثيرا و تأثرا بالوجود العقلى. لكن فى الاخير ارتأينا حذف هذا
الباب الاخير لضيق الفسحة المسموح بها وايضا الاستطراد الشديد الذى كنا
سنضطر اليه فى هذا الجزء حتى يؤدى الاداء الكامل.
يمكننا اضافة هذا الجزء او بعضه اذا ظهرت لنا ضرورة او فائدة وراء ذلك.
الآن الكتاب ينقسم الى الابواب الثلاثة التالية:
- فلسفة الكمومى و المادة.
- فلسفة الزمن و الكون.
- بعض من الرياضيات و فلسفتها.
كل باب يحتوى على مقالات قصيرة منفصلة على السطح لكن متداخلة و مرتبطة فى
العمق تخدم بعضها بعض و تخدم موضوع ذلك الباب. اخترنا هذه الطريقة للصعوبة
الذاتية للمادة المطروحة حتى يتم تيسيير القراءة على القارئ. وبالاضافة الى
الميتافيزيقا التى تحتويها بعض المقالات فان البعض الآخر يحتوى على فيزياء
او رياضيات بحتة و البعض الآخر يحتوى على مزيج بين الامرين. يبقى ان نؤكد
ان كل الميتافيزيقا و الفلسفة التى تحتويها هذه المقالات هى ليست رأى بل هى
مرتكزة بالكامل على الفيزياء والرياضيات التى تتناولها نفس هذه المقالات
او مقالات اخرى تخدمها.
ايضا نذكر ان هذا العمل هو ليس فيزياء عامة و
لا هو فيزياء تقنية و لا هو فيزياء فلسفية. هو وسط بين الثلاثة. اعتقد انه
فى المتناول لكن الجهد و الاجتهاد
- خاصة فى الجزء الاول- من القارئ
المثقف المهتم ضرورى. هناك مقاطع قليلة فعلا صعبة و هناك معادلات فى بعض
الاحيان - وهى كما ذكرت شر لا بد منه-
لكن اتمنى ان تصل الفكرة العامة رغم كل ذلك.
فلسفة الكمومى وفلسفة الزمن كما اطرحهما فى هذا الكتاب هى اول عرض
باللغة العربية مباشرة وليس ترجمة من مختص محترف فى الفيزياء النظرية مهتم
بهذا المجال منذ اكثر من عشرين سنة.
حسب علمى كل ماهو موجود فى
المكتبة العربية هو ترجمة لكن ربما احدهم يعرف تأليفا من مختص لم يبلغنا
بعد. هذا مجال - مجال الفيزياء النظرية وانعكاساتها الفلسفية- مجال نادر
صعب جدا حتى فى الغرب. وقليل من الجزائريين و العرب من تخصص فى هذا الامر.
من الجهة الاخرى وكما قلت آنفا, هذه الفلسفة الكمومية هى بالاحرى علم كلام
جديد نهرب فيه من مناقشات علم الكلام القديم المحصورة تقريبا فى الذات
الالهية - او على الاقل ننقص منها- الى مناقشات جديدة بناءة وربما حاسمة
حول الذات
الكونية و الذات الانسانية حيث تتوفر لدينا معطيات علمية صارمة.
هذا المشروع - هذا الكتاب- بدأت التفكير فيه نهاية عام 98 عندما قرأت لاول
مرة كتاب هاوكينغ: تاريخ قصير للزمن, ثم انتبهت الى العلاقة الوثيقة لهذه
الامور
بالفلسفة و علم الكلام بعد قرائتى لكتب بنروز مثلا: العقل الجديد للامبراطور, فجاء الربط او محاولة الربط,
ومنذ ذلك الحين و انا ادرس و اتدارس و ايضا افكر واكتب - ولو بصورة محتشمة
جدا- فى هذه المواضيع. ثم اننا فى برنامج الماجيستير النظرى الاخير فى
جامعة عنابة
الذى تقرر العام الاكاديمى الماضى ادخلنا مادة اسمها فلسفة
الفيزياء وهى مادة الهدف منها هو تقريب المفاهيم فى هذا المجال باقل قدر
ممكن من التقنيات الرياضية لكن بأكبر قدر ممكن من الدقة الفيزيائية و
الفلسفية. وهذا بالضبط ما حاولت جاهدا ان افعله فى هذا الكتاب ولعلى ان شاء
الله وفقت.
فى الاخير اود ان اهدى هذا العمل الى روح والدى الكريم
سعد بن محمد يدري و منه فانى أدعوا الله سبحانه و تعالى ان يجعل هذا
الكتاب فى ميزان حسناته وان يتقبله عنده و يتغمده برحمته و مغفرته. آمين.
باديس يدري,
سرايدى, عنابة, الجزائر
25-27 جانفى 2017.
الرابط ادناه يحتوى على تفصيل لمحتويات الكتاب مع المقدمة فى ملف PDF جاهز للتحميل.