من اصدق المفكرين المسلمين الذين مروا عبر تاريخ الاسلام يبقى حجة الاسلام ابى حامد الغزالى.
و ذروة صدقه هى استقالته الايمانية-و-الفكرية التى ينتقده عليها الجميع.
بالنسبة لى هذه الاستقالة هى ذروة عبقرية الغزالى و ليس كما يعتقد السطحيون انها ذروة عجزه و هم العاجزون.
ففعلا لا يمكن البرهان على الحقائق الدينية بالعقل.
و لا يمكن الاكتفاء بالنقل كبرهان لانه هو نفسه يحتاج الى برهان العقل الذى اصبح غير متوفر.
و من يعرف قليلا من الرياضيات و يعرف قليلا من المنطق الحديث و يعرف قليلا من الفيزياء النظرية فانه سيعرف فعلا ماذا نعنى بالبرهان و كيف يجب ان يكون البرهان و ما علاقة البرهان بالمبرهن عليه و ماهو الدور الذى يؤديه المبرهن فى البرهان.
من له ادنى خبرة بالفيزياء النظرية و الرياضيات فانه سيعرف بدون ادنى شك انه ليس لدينا أية براهين فى الميتافيزيقا فى مستوى قوة البراهين الهندسية و الحسابية.
وحتى البراهين التحليلية التى تفخر بها الفلسفة فانها لا يمكن ان ترقى الى مستوى البراهين الهندسية و دليل ذلك هذا الخلاف الشديد الذى نراه فى كل مسألة فلسفية يمكن ان تخطر على بالنا.
لذا توجه الغزالى الى التصوف و ابتدأ هذه الظاهرة فى الاسلام وهذا هو الذى سماه منتقدوه بالاستقالة الفكرية. و كأن التصوف هو انعدام التفكير رغم ان اعظم مفكرى الاسلام اصالة و ابداعا هم متصوفة و على رأسهم ابن عربى و الملا صدرا.
الغزالى لم يستقل فكريا بل الغزالى استقال كلاميا و فلسفيا-دينيا. وهذا فرق كبير.
وتوجه بعده اهل السنة الى التصوف و بلغ التصوف ذروته عند ابن عربى الذى بالغ فى فلسفة التصوف حتى اصبحت معرفة غمائضية لا يدرك كنهها الا القليل -ربما-.
ثم جاء آخرون وقالوا لقد توفى الغزالى و على صدره صحيح البخارى و هم بذلك يلوحون بأن الغزالى قد كان سيتحول الى مذهب اهل الحديث لو لم يمت.
و عالم و علم "لو" لا يمكن ان تنتهى ترهاته لو سمحنا لانفسنا بفتح ابوابهما.
البخارى هو سيد اهل السنة و صحيحه هو اصح كتاب كتبه انسان -وليس هو اصح كتاب بعد القرآن لانه لا مجال للمقارنة بين كلام الله و كلام الانسان حتى لو كان هذا الانسان البخارى-.
اذن كون الغزالى توفى و كتاب البخارى على صدره لا يعنى شيئا.
و رأى الغزالى فى الحنابلة و اهل الحديث من المتسلفين معروف.
ثم هل من المعقول ان من يستقيل فكريا من الكلام و فلسفة الدين لا يستقيل فكريا من فكر التسلف.
يا هل ترى من هو الاكثر تهافتا -حسب الغزالى و هو ايضا رأيى- الفلسفة بكل عظمائها العباقرة ام التسلف بكل مخرفيه السفهاء.
الحقيقة هو انه يجب ان نرجع الى الغزالى و عوض ان نغوص فى فلسفة الله و الوجود و نوغل فيها كما فعل ابن عربى علينا ان نوغل فى فلسفة النفس و الوجود و نوغل فيها مثلما فعلت فلسفة الوجودية و على رأسها دويستفسكى و نيتشة و فعل علم النفس الحديث و على رأسه كارل جونغ و ويليام جايمس (و حتى فرويد رغم نزعة هذا الاخير المادية-الميكانيكية التى لا تتزعزع).
علينا ان نقفز مباشرة من الغزالى -الذى ادرك ان الفلسفة الميتافيزيقية لا يمكنها البرهان على شيء- و نهمل ابن عربى رغم عظمته و لو الى حين -و نهمل ايضا حتى لن نضيع وقتنا ابن رشد فى اعتراضاته الجافة و ابن تيمية فى اعتراضاته الهستيرية- و نقفز مباشرة من الغزالى الفذ الى كارل جونغ و مدرسته فى علم النفس الحديث التى تهتم بفلسفة الدين كأحد أهم مقوماتها التى تقوم عليها.
ففلسفة علم النفس على طريقة كارل جونغ ادركت ان الطريق الى العالم الاخرى -الكون اولا ثم الله من وراءه- يجب ان يعبر فيه الوعى عالم اللاوعى النفسى الداخلى.
الطريق الى الخارج ثم الى الله يبدأ من الايغال فى داخل و باطن النفس -وعى ثم لاوعى- ثم الخروج من الجهة الاخرى -وهذا هو ربما ما يسميه المتصوفة الكشف- لانه كما بين الغزالى ليس هناك ارتباط مباشر -ما يسمى البرهان- بين العقل و الخارج كما يصر على ذلك المتعقلة.
هذا هو التصوف الجديد الذى ادعوا اليه.
وهو اكثر تواضعا فكريا-و-روحيا بل هو اكثر واقعية و اكثر منطقية من مقترح علم الكلام الجديد الذى اقترحته منذ سنوات و الذى اقتنعت الآن انه لن يأتى بشيء جديد مفيد يذكر لان المسألة هى ليست مسألة ذات و صفات الهية بل المسألة هى مسألة نفس و وعى انسانى.
No comments:
Post a Comment