LATEX

تفسير الكوبنهاغن بين بوهر و هايزنبرغ

 

مبدأ التكامل الكمومى هو التعميم المنطقى لمبدأ السببية الكلاسيكى.
نيلز بوهر
و مبدأ التكامل complementarity principle هو الذى يلعب فى الميكانيك الكمومى (تفسير كوبنهاغن) نفس الدور الذى يلعبه مبدأ النسبية فى نظرية النسبية الخاصة.
و التكامل يقصد به بوهر التكامل بين الوصف فى الفضاء-زمن (مثلا تحديد الموضع x او الزمن t او الزاوية θ) و الوصف السببي عبر مبادئ الانحفاظ conservation principles لكمية الحركة p او الطاقة E او الفعل S.
و التمثيل الرياضى لمبدأ التكامل هو مبدأ الارتياب لهايزنبرغ حيث انه ينص على اننا لا نستطيع ان نقيس المتغيرات المترافقة conjugate variables بنفس الدقة فى نفس التجربة اى بالنسبة لنفس الراصد الكلاسيكى.
وبالتالى فان قياس الموضع x وكمية الحركة p بدقة كلاسيكية لا يمكن ان يتم الا فى تجربتين (بالنسبة لراصدين او راصد واحد فى تجربتين مختلفتين) حصريتين تبادليا mutually exclusive.
نقول ان الموضع و كمية الحركة هما متغيران متكاملان و ان الراصدان الفيزيائيان اللذان يقومان بعملية رصدهما هما راصدان متكاملان.
اما اهم تمثيل فيزيائى لمبدأ التكامل فهو الثنائية موجة-جسيم wave-particle duality حيث ان الالكترون مثلا يتصرف كجسيم فى تجارب و يتصرف كموجة فى تجارب اخرى.
هذان التصرفان هما تصرفان متكاملان غير متناقضان.
لهذا يعتقد بوهر ان مبدأ التكامل هو تعميم لمبدأ النسبية. ليس لان الميكانيك الكمومى يكسر النسبية كما يعتقد العوام و الكتاب العوام. فهذا غير صحيح ابدا.
الصحيح ان التفسير السببى فى الميكانيك الكلاسيكى للظواهر يتبع مثلا الالكترون فى حركته فى الفضاء-زمن و فى نفس الوقت فانه نحسب مجموع القوى المطبقة على الالكترون و كيف تؤثر على حركته.
فى الميكانيك الكمومى لا نستطيع ان نحسب الطريق (المسار اى الموضع كدالة فى الزمن الذى يتبعه الاكترون) و كمية حركته و طاقته (اى القوة التى تطبق عليه) فى نفس الوقت.
هذا كل ما فى الامر. المسار (الوصف فى الفضاء-زمن) يحسب فى تجربة بالنسبة الى راصد اما قوانين الانحفاظ للطاقة و كمية الحركة (الوصف السببي) فتحسب فى تجربة اخرى بالنسبة الى راصد آخر متكامل مع الراصد الاول و ليس مناقض له لانه يعطى الجزء المكمل للصورة الفيزيائية.
و كمثال نأخذ الصراع بين الميكانيك الكمومى الموجى wave quantum mecahnics لشرودينغر و الميكانيك الكمومى المصفوفى matrix quantum mechanics لهايزنبرغ.
و الموجى و المصفوفى هما صياغاتان متكافئتان رياضيا للميكانيك الكمومى تعرفان اليوم بصورة شرودينغر Schrodinger's picture و صورة هايزنبرغ Heisenberg's picture.
شرودينغر كان يصر على ان الانتقال بين المستويات الطاقوية هو عملية مستمرة فى الفضاء-زمن وهذا صحيح تماما لانه فى هذا الوصف فان الالكترون هو موجة فى الفضاء-زمن.
اما هايزنبرغ فكان يصر على ان الانتقال بين المستويات الطاقوية فى ذرة الهيدروجين هى قفزات كمومية quantum jumps غير-مستمرة discontinuous و آنية instantaneous. وهذا ايضا صحيح (حسب بوهر) لانه فى هذا الوصف فان الالكترون هو جسيم.
هناك تجارب اخيرة تنص على انه قد تم قياس عملية القفز بين مستويين طاقويين ووجدوا انها ليست آنية و ليست غير مستمرة بل هى تأخذ زمن وهى عملية مستمرة كما قال شرودينغر.
هل هذا يعنى ان بوهر اخطأ?
اقدم جوابى الشخصى و اقول لا.
بوهر قال هذا تصرف موجى و ذلك تصرف جسيمى و هما ليسا متناقضين بل متكاميلن لانهم يقعان فى تجربتين مختلفتين بالنسبة الى راصدين متكاملين.
اذن الذى يتكلم عنه اصحاب التجربة فى الرابط هو التصرف الموجى للالكترون و ليس تصرفه الجسيمى.
لأن الالكترون كجسيم موضعى local اما ان يكون هنا او يكون هناك اما موجته فهى يمكن ان تكون ممتدة spread.
وهذا هو الجواب الصحيح على هذه الشبهة التى اثيرت مؤخرا فى احد لقائاتنا على الزووم مع الاصدقاء.
ومن مميزات تفسير كوبنهاغن حسب بوهر ايضا صياغته الفذة لمعضلة الرصد measurement problem كما يلى:
-فرضية الكمة quantum hypothesis: هناك حد اصغرى من الفعل معطى بثابت بلانك. هذ الحد الاصغرى هو الذى يؤدى الى تفاعل بين الجملة الفيزيائية و آلة القياس تفاعل لا يمكن اهماله و لا يمكن معرفته فى الميكانيك الكمومى -عكس الميكانيك الكلاسيكى الذى يمكن اهمال هذا التفاعل فيه او تعيينه-.
-فرضية المفاهيم الكلاسيكية classical concepts: وقد سماها صاحبها (الفيلسوف شيب Scheibe ) فرضية المصد buffer hypothesis و هو اسم لم يعجبنى فترجمت المعنى.
هذه الفرضية تنص على ان جميع الظواهر الكمومية التى تحدث بين الجملة الفيزيائية و آلة القياس يجب التعبير عنها باستعمال المفاهيم الكلاسيكية التى تلعب دور القوالب الكانطية عند بوهر.
اذن الذى يحدث عند عملية الرصد بالنسبة الى بوهر -عكس هايزنبرغ- ليس عملية انهيار لدالة الموجة wave function collapse (الذى هو تغير غير مستمر discontinuous و آنى instantaneous و غير حتمى indeterministic و غير عكسى irreversible لدالة الموجة) بل الذى يحدث هو عملية تغيير للوصف الفيزيائى من دالة الموجة التى تصف الظاهرة الطبيعية الى دالة الموجة زائد المفاهيم الكلاسيكية.
فالتجربة و الراصد و آلة القياس كلها موصوفة كلاسيكيا وتفاعلها مع الجملة الفيزيائية مجهول مما يؤدى الى اضطرارنا الى استعمال المفاهيم الكلاسكية (المحسوبة عبر دالة الموجة باستعمال قاعدة بورن Born's rule) لوصف الجملة الفيزيائية.
بعبارة أخرى الرصد لا يؤدى الى انهيار دالة الموجة بل الرصد يقوم بتعريف المفاهيم الكلاسيكية.
هذا هو الخلاف الاساسى بين بوهر و هايزنبرغ الذى يعتقد بعض الفلاسفة انه محورى لكننى شخصيا اراه شكلى و سطحى.
فبوهر يستعمل دالة الموجة التى لا تخضع الا الى التطور الاحادى unitary evolution فى الزمن لشرودينغر بالاضافة الى المتغيرات الكلاسكية اما هايزنبرغ فانه يعوض المتغيرات الكلاسكية بالكلام عن انهيار دالة الموجة.
هنا نصل الى حقيقة دالة الموجة عند بوهر التى هى ليست الا رمزية symbolicاى انها ليست واقعية اما عند هايزنبرغ فهى صورية pictorial اى واقعية real تماما.

اما بالنسبة للمتغيرات الكلاسيكية فاننى شخصيا ارجح تشبيهها بالقوالب الكانطية Kantian categories.
اما مبدأ الارتياب فان هايزنبرغ يفسره باستعمال الانهيار.
اى ان انهيار دالة الموجة عند عملية قياس الموضع هو الذى يؤدى الى الارتياب و عدم التعين غير-المستمر فى قياس كمية الحركة.
بالنسبة الى بوهر القضية تكمن فى مبدأ التكامل مرة اخرى حيث ان كمية الحركة لا يمكن ان تقاس مع الموضع فى نفس التجربة و هذا هو سبب الارتياب الحاصل فيها.
يبقى فى الاخير ذكر موقف بوهر و هايزنبرغ من حقيقة الخواص الفيزيائية قبل عملية القياس. هذا يحكمه موقف اجرائى operational عندهما معا يمكن تلخصيه فى المسلمتين.
-مسلمة القياس=المعنى measurement=meaning: اى ان معنى جملة "موضع الجسيم" او "كمية حركة الجسيم" او اى جملة خرى تخص خاصية اخرى للجسيم مرتبط بوجود تجربة يمكننا ان نقيس فيها موضع الجسيم او كمية حركة الجسيم و بالتالى فان موضع و كمية حركة الجسيم هى مقادير-معرفة فيزيائيا physically well-defined اذا توفرت تجارب حقيقية يمكننا ان نقيسهما فيها.
اذن اذا لم تكن هناك تجربة لقياس مقدار ما فان الكلام عن ذلك المقدار بالنسبة الى بوهر و هايزنبرغ لا يحمل اى معنى (لغوى قبل الفيزيائى) و بالتالى فان عدم وجود التجربة يعنى ايضا ان ذلك المقدار غير معرف-فيزيائيا.
مثلا (الزمن) فى الميكانيك الكمومى هو فعلا ليس مقدار فيزيائى و كل الكلام عن مبدأ الارتياب طاقة-زمن time-energy momentum هو كلام اغلبه فارغ من كل محتوى حقيقى و يجب الحذر الشديد فيه و معه.
-المسلمة الثانية هى مسلمة القياس=الخلق measurement=creation: وهذه مسلمة انطولوجية مثلما ان مسلمة القياس-المعنى هى مسلمة ابييستيملوجية.
فى هذه المسلمة الاقوى فان هايزنبرغ صراحة (وبوهر ضمنيا) ينصان على ان القياس او الرصد ليس هو فقط الحامل للمعنى و المعرفة بل هو المؤدى الى الوجود او الخلق.
فالسؤال (هل موضع الجسيم كان موجودا قبل القياس?) جوابه بكل بساطة لا. مثلا موضع الالكترون كخاصية فيزيائية للالكترون هى خاصية غير موجودة بدون وجود تجربة يتم فيها قياس موضع الالكترون.
ومن هنا جاءت فكرة المرصودات observables فى الميكانيك الكمومى التى هى عبارة عن مؤثرات هرميتية hermitian operators فى فضاء هيلبرت Hilbert space تعبر عن مقادير فيزيائية تقبل القياس.
فالميكانيك الكمومى لا يتعامل الا مع هذا النوع من المؤثرات على فضاء هيلبرت.
و باستعمال المسلمتين (القياس=المعنى) التى توجد المعنى اللغوى للخواص الفيزيائية و (القياس=الخلق) التى توجد الوجود المادى للخواص الفيزيائية تمكن هايزنبرغ من اشتقاق مبدأ الارتياب الذى تبناه بوهر مباشرة كمعبر اساسى عن مبدأ التكامل.
وهذه نبذة حقيقية عن تفسير كوبنهاغن.
 

 

No comments:

Post a Comment