LATEX

التاريخ المزيف و الكون المتوهم


ومن اعظم القوانين الفيزيائية هو المبدأ الثانى للترموديناميك الذى ينص على ان الانتروبى entropy يتزايد بشكل مستمر اى نجو المستقبل و لا يمكنه ابدا ان ينقص..
والانتروبى هو مقياس اللانظام و هو ايضا كمية المعلومات وهو يلعب بالنسبة لدرجة الحرارة و الطاقة الحرارية (كمية الحرارة) نفس الدور الذى يلعبه الحجم بالنسبة للضغط و الطاقة الميكانيكية (العمل)...
ويبقى بولتزمان Boltzmann ثالث الثلاثة فى الفيزياء النظرية و هو الذى اكتشف ان الانتروبى هو ايضا يساوى اللوغاريتم الطبيعى لعدد الحالات الميكروسكوبية microstates التى تؤدى الى نفس الحالة الماكروسكوبية macrostate للغاز او الجملة هذه الاخيرة التى تعرف باعطاء قيمة معينة للحجم و الضغط و درجة الحرارة..
فان التشكيلات configurations الذرية او الجزيئية (وهى الحالات الميكروسكوبية) التى تقابل قيمة ميعنة للحجم و الضغط و درجة الحرارة هو عدد هائل احصائى من رتبة عدد افوغادرو Avogadro و لهذا تنجح الطرق الاحصائية عند تطبيقها على الميكانيك الكلاسيكى للغازات بشكل خارق للعادة (وهو ما تعرفونه ربما تحت اسم النظرية الحركية للغازات) لكن ايضا عند تطبيقها على غيرها من الجمل الفيزيائية كلاسيكية او كمومية (الميكانيك الاحصائى)...
وهذه العلاقة العظيمة لهذا الفيزيائى العظيم اوصى ان تكون منقوشة على شاهد قبره و هو يحق له ان يفتخر فى حياته و بعد مماته (انظر الصورة)...
اذن الانتروبى هو مقياس للاحتمال لانه متناسب مع عدد الحالات التى يمكن ان يكون فيها الغاز...
ولهذا فان الغاز او اى جملة تريد دائما ان تذهب الى حالة التوازن الحرارى لان حالة التوازن هى الحالة التى تتميز باكبر عدد ممكن من الحالات الميكروسكوبية اى تتميز باحتمال اكبر..
اما احتمال ان تكون الجملة فى اى حالة ميكروسكوبية عند التوازن الحرارى فهو معطى بنفس القيمة وهذه هى المسلمة الاولى للميكانيك الاحصائى...
اذن فى المحصلة فان الانتروبى يزداد بطبيعته لان الجملة تريد ان تذهب الى التوازن الذى يتميز باكبر عدد ممكن من الحالات..فالتوازن اذن هو الحالة الطبيعة للمادة و الكون ككل هو يتطور باتجاه التوازن..
وقد كان بولتزمان هو ايضا اول فيزيائى نظرى او غيره الذى استوعب ان اغرب شيء فى المبدأ الثانى ليس فى كون ان الانتروبى يزداد فى المستقبل لان هذا فى الحقيقة طبيعى...
لكن اغرب شيء فى المبدأ الثانى هو لماذا الانتروبى كان صغيرا اصلا فى الماضى?
وهذه نقطة جوهرية من اكثر النقاط الفيزيائية غموضا لهذا فاننى سأشرحها قليلا اكثر بتفصيل قليل..
فانطلاقا من اى حالة ابتدائية فان الجملة تريد ان تذهب فى المستقبل للحالات التى تتميز بانتروبى اعلى لانها هى الحالات التى تتميز بعدد اكبر اى باحتمال اكبر..وهذا هو المبدأ الثانى و ظاهرة الاقتراب من التوازن الحرارى..
لكن من الجهة الاخرى فانه تحت تأثير العكس فى الزمن و انطلاقا من اى حالة ابتدائية فان الجملة تريد ايضا ان تذهب فى الماضى -الماضى بالنسبة لنا الذى اصبح مستقبل تحت العكس فى الزمن- الى الحالات التى تتميز بانتروبى اعلى لنفس السبب اى لانها الحالات ذات العدد الاكبر..
اذن هذا التفسير الاحصائى للانتروبى يحترم العكس فى الزمن لان الميكانيك الاحصائى هو ميكانيىك كلاسيكى يتميز بالتناظر تحت تأثير العكس فى الزمن...
لكن المشاهد فى الطبيعة مخالف لهذا تماما....فالانتروبى يزداد نحو المستقبل وهذا ما يعطيه التفسير الاحصائى لكنه ينقص نحو الماضى عكس التفسير الاحصائى..
اذن المعضلة الحقيقية فى المبدأ الثانى غير العكسى للترموديناميك (وتعارضه الظاهرى مع الميكانيك الكلاسيكى العكسى فى الزمن) هى لماذا كان الانتروبى صغيرا فى الماضى و ليس لماذا يزداد الانتروبى فى المستقبل...
اذن المبدأ الثانى يحدد السهم فى الزمن من الماضى الى المستقبل و من هنا تأتى اهميته القصوى فى الفيزياء و الفلسفة...
وموضوعية السهم فى الزمن ووجود الحاضر و عدم وجود الماضى و المستقبل هو موقف القديس اوغستين عكس موقف ارخميدس الذى يُنكر السهم فى الزمن و يتبنى ما يسمى الكون اللبنة block universe اى ان الموجود هو الفضاء-زمن بأكمله...
وقد حاول بولتزمان البرهان على عدم عكسية المبدأ الثانى انطلاقا من الميكانيك الكلاسيكى العكسى فى ما يسمى المبرهنة H وهى اعظم مبرهنة فى الترموديناميك و الميكانيك الاحصائى -واننى اعشق المبرهنات العظيمة-...
لكن بعد الهجوم الساحق عليه من الفيزيائيين النقاد الذين لم يردعهم ان بولتزمان هو ثالث الثلاثة فى الفيزياء تبين فيما بعد ان المبرهنة H لا تستخرج فى الحقيقة السهم فى الزمن و مبدأ تزايد الانتروبى من الميكانيك الكلاسيكى (الذى لا يميز بين الماضى و المستقبل) الا بعد افتراض فرضية مشهورة جدا تعرف باسم الفوضى الجزيئية molecular chaos التى بعد التمحيص أُكتشف انها لا تحترم التناظر العكسى فى الزمن...
وقد قبل بولتزمان هذه النتيجة- اى ان المبرهنة H تصف الاقتراب من التوازن الحرارى لكنها لا تفسر السهم فى الزمن- بعد نقاشات طويلة مع اقرانه...
وهذا هو الدرس العام الذى نستخرجه من هذا الموضوع..فان كل الاسهم (فهناك اسهم اخرى ليس فقط السهم فى الزمن) لا تستخرج من القوانين الفيزيائية الاساسية التى لا تمييز فيها بين الماضى و المستقبل الا انطلاقا من فرضيات اضافية هى بالضبط الشروط الابتدائية..
فى حالة المبرهنة H فان الشرط الابتدائى هو فرضية الفوضى الجزيئية التى تنص على ان الجسيمات المتصادمة الواردة مستقلة عن بعضها البعض...
اى ان التأثيرات الورادة هى تأثيرات منفصلة عن بعضها البعض و هى فرضية بديهية جدا جدا ذات علاقة وثيقة بسهم السببية نفسه لكنها ليست فرضية متناظرة فى الزمن...
فحالة الجملة يجب ان تتعين بماضيها (وهذا هو البديهى) لكن ايضا و فى نفس الوقت يجب ان تتعين بمستقبلها (وهذا هو التناظر تحت تأثير العكس فى الزمن الذى لا نعرف الا جسيم الكاوون فى الطبيعة الذى يخرقه)..
أما اليوم فانه يُعتقد ان السهم فى الزمن و المبدأ الثانى للترموديناميك (وكذا سهم الاشعاع و السهم الكوسمولوجى) ترجع كلها الى الشرط الابتدائى للكون حيث ابتدأ الكون من حالة مخصوصة جدا جدا تتميز بانتروبى منخفض جدا جدا...
لكن لماذا?..فالفيزياء النظرية رغم ذكائها و عمقها الا انها مازالت لا تحير جوابا مع هذه المعضلة...
وقد حاول ايضا بولتزمان شرح كيفية انبثاق-و بشكل صريح- السهم فى الزمن فى كوننا الذى نعيش فيه..هذا الاخير الذى يظهر كتقلب حرارى عشوائى ذو انتروبى منخفض انطلاقا من حالة التوازن الحرارى للعالم القديم..كل هذا فى فرضية فى قمة الجمال و الروعة قد كنت بسطتها فى بداية محاضرتى الاخيرة على اليوتوب
https://www.youtube.com/watch?v=vw455h5VIgY&feature=youtu.be
لكن نقاط ضعف هذه الفرضية كما نبه الى ذلك الفيلسوف برايس Price تكمن فى ان احتمال ان يكون التاريخ الكونى و الجيولوجى و الانسانى الذى يقيسه العلم الحديث مزيف اعلى بكثير من احتمال ان يكون هذا التاريخ حقيقى و ايضا احتمال ان يكون حجم الكون الذى نشاهده اليوم مزيف اعلى من احتمال ان يكون هذا الحجم حقيقى لان المزيف يقابل تقلب حرارى اصغر اى يكلف طاقة اصغر فى ايجاده -بشكل عشوائى من العالم القديم- بالمقارنة مع التقلب الحرارى الحقيقى..
اذن على الارجح على هذه الفرضية الجميلة فان كل التاريخ مزيف و كل الكون متوهم...
لكن فعلا اتسائل هل هذه النقاط هى فعلا نقاط ضعف لهذه الفرضية ام هل هى نقاط قوة.
هذا هو السؤال الميتافيزيقى الآخر?

No comments:

Post a Comment