أما النظرية الفيزيائية فهى اما ان تكون معرفة اضطرابيا وهو اغلب الحالات او معرفة غير اضطرابيا وهو هدف كبير يندر و يصعب تحقيقه لكن موجود..
أما الاضطراب فيعنى ان النظرية تحتوى على وسيط صغير جدا (او وسيط كبير جدا فنقلبه) ثم ننشر النظرية فى هذا الوسيط..
الذى يعرف نشر الدوال (نشر تايلور مثلا) فنشر النظرية حول وسيط صغير هو بالضبط نشر للمقادير الفيزيائية التى تهمنا حول الوسيط عند حسابها...
والذى لا يعرف نشر الدوال الرياضية نقول ان وجود وسيط صغير فى النظرية سيسمح لنا بكتابة اى مقدار فيزيائى نريد ان نحسبه كسلسلة من الحدود متناسبة مع الوسيط مرفوع لقوة معينة وكل حد فى هذه السلسلة هو اصغر من الحد الذى يسبقه..نسمى هذه السلسة بالسلسلة الاضطرابية...
نأخذ كمثال هنا أدق نظرية (من الناحية التحقق التجريبى) عرفها الانسان وهى نظرية الالكتروديناميك الكمومى quantum electrodynamics التى قال عنها فايمان Feynamn احد مؤسسيها جوهرة الفيزياء و هى النظرية الاساسية التى تصف التفاعل بين الالكترونات و المادة بصفة عامة مع الاشعاع الكهرومغناطيسيى اى مع الكهرباء و المغناطيسية و الضوء فى اطار الميكانيك الكمومى quantum mechanics اى التفاعلات بين تلك الاشياء على المستوى الاساسى الكمومى و ليس على المستوى الكلاسيكى النيوتونى..
وكل هذه التخصصات عندنا فى الجزائر التى تدرس "تفاعل المادة و الاشعاع" (وهذا هو اسمها فعلا) هى تريد ان تدرس ما تدرسه نظرية الالكتروديناميك الكمومى بالطرق البدائية غير النسبية للميكانيك الكمومى العادى وهذا محال فانت تحتاج النسبية و تحتاج الحقل والا فانك لن تحقق شيئا.. و ابقى محتار كعادتى فى هذا الذى يحدث حولنا من الغرائب و العجائب..
لكن حتى ارجع الى نقطتى اقول ان جوهرة الفيزياء وهى الالكتروديناميك الكمومى الذى هو ادق نظرية عرفها الانسان هى نظرية اضطرابية بالاساس بمعنى انها معرفة كسلسلة من الحدود جول وسيط هو ثابت اقتران (اى تفاعل) coupling constant يساوى بالضبط شدة التفاعلات الكهرومغناطيسية مع المادة و يسمى ثابت البنية الدقيقة fine structure constant و هو بعبارة مبسطة جدا لكن دقيقة الى حد كبير الشحنة الكهربائية للالكترون..
هذه السلسلة الاضطرابية للالكتروديناميك الكمومى هى معرفة كسلسلة مقاربة asymptotic series فقط و هذا يعنى ان النظرية لا يمكن ان تمدد اى تطبق فى محال طاقات عليا كيفى..
هذه المعضلة تسمى قطب لانداو Landau pole نسبة الى لانداو (وهو الفيزيائى الروسى العظيم الذى رتب غيره من الفيزيائين العباقرة فى سلم لاندو ووضع نفسه فى الصف الرابع!!!)...
من الناحية الفيزيائية نقول ان ثابت الاقتران الكهرومغناطيسي يتباعد diverges عند الطاقات العليا حيث تنهار السلسلة الاضطرابية و تصبح ليس ذات معنى فيزيائى..
أما من الناحية الرياضية نقول ان نصف قطر تقارب radius of convergence السلسلة الاضطرابية هو صفر... عندما نحسب فاننا نجد فعلا ان هناك قطب فى عبارة ثابت الاقتران الجارى running اى ثابت الاقتران الذى يتعلق بالطاقة ولهذا سميت هذه المعضلة او العلة بقطب لانداو..
اذن ادق نظرية فيزيائية او جوهرة الفيزياء لا يمكن تعريفها غير اضطرابيا اى بدون السلسلة التى حسبها فايمان Feynman و شوينغر Schwinger و توموناغا Tomonaga و غيرهم من العظماء...هذه السلسلة التى تحسب بالضبط باستخدام مخططات فايمان..
ومن اجل هذا السبب فان لانداو بعد اكتشافه لقطبه و لانه عظيم جدا (اى لانداو و ليس القطب و لو ان القطب ايضا عظيم) و متحكم تماما فى كل الفيزياء السوفياتية فى عصره فان رأيه كان ان هذا يعنى ان نظرية الالكتروديناميك الكمومى هى نظرية معلولة يجب رميها الى سلة المهملات وهذا بالضبط ما فعلته الفيزياء السوفياتية فى عهدة لمدة عشرين سنة تقربا حتى توفى لانداو ثم تم اكتشاف معادلات اعادة التنظيم renormalization group equation العظيمة التى فسرت لماذا يقع او بالاحرى لماذا يجب ان يقع مثل هكذا امور للسلسات الاضطرابية...
أما النظريات غير التبديلية المعيارية non abelian gauge theories (التى هى تعميم للكهرومغناطيسية و للاكتروديناميك الكمومى) فهى تؤسس اضطرابيا لكنها ايضا تقبل تعريف غير اضطرابى non perturbative على الشبكة lattice اى على فضاء -زمن منته و مقطع..وهذا عالم آخر لفرصة أخرى ان شاء الله...
اما الرسالة تحت الضوئية subliminal التى ارسلتها اعلاه فهى ان انهيار السلاسل الاضطرابية بتباعدها فى اللانهاية عندما تبلغ الطاقات المالانهاية من جهة و من جهة اخرى بناء النظريات بناءا كاملا غير اضطرابيا على الشبكات المنتهية يجعلنى اقول ان الفيزياء عكس الرياضيات متواضعة وواقعية و عقلانية وانها هى التى تفضح ضعف الرياضيات عند تطبيقها على الواقع المادى...فالفيزياء تود فعلا ان تتعامل مع اشياء مُعرفة رياضية تماما و هذه الامور لا تأتى الا بالبعد عن المالانهاية و جعل كل شيء منته ثم نقوم باستقراء extrapolation النتيجة فى الاخير الى المالانهاية ..بعبارة اخرى الفيزياء لا تحب المالانهاية الفعلية لكنها تقبلها كاستقراء للنهاية الكامنة فقط و هو توجه ارسطو الاول منذ 2500 سنة...
أرايتم كيف وصلت بكم مرة اخرى من الفيزياء النظرية البحتة الى شيء آخر غير فيزيائى بالمرة لكن فلسفى بامتياز...