LATEX

الحل الميتافيزيقى ما بعد-الغزالى

الجزء الاول 

من نظريات الغزالى الشهيرة جدا التى لا تنسجم بالمرة مع مبدأ السببية و حرية الانسان و معضلة الشر هو ما يسمى (الخلق فى الآنات) او ما يسمى (الخلق المستمر) او (الخلق المتجدد).

ولأن الله يخلق الخير و الشر فان الله يخلق الشر فى الآنات متجددا و مستمرا.
اذن حسب الغزالى فان الله يجدد خلق الكون و الوعى و الاقتران بينهما (الذى هو المنظوريانية) بشكل مستمر اى فى كل لحظة زمنية من وجود هذا العالم فان هذا العالم يخلق جديدا بارادة الله سبحانه و تعالى القاهرة فوق كل شيء.
فهذا الكون الذى نراه قديما عمره 14 مليار سنة هو فى حقيقته جديد الخلق قد خلقه الله الآن فى التو و الحين. ثم فى الآن الموالى فان الله يخلق هذا الكون مرة اخرى على الحالة التى كان عليها فى الآن السابق وهكذا الى ما لانهاية.
ولو ترك الله خلق الكون لتلاشى الكون و لما استطاع الاستمرار فى الزمن مستقلا عن ارادة الله.
فان ارادة الله تلعب دورا قاهرا فى نظرية الغزالى.
هذه النظرية (الخلق المتجدد او المستمر) كما بينت فى كل كتاباتى فى السنوات الماضية لا تتلائم تماما مع مبدأ السببية و مع حرية الانسان و مع معضلة الشر.
بل ان هذه الثلاثة (السببية و الحرية و الشر) هى بالضبط المعضلات الاساسية التى يقصر فيها رأى الغزالى عن الحقيقة و لا يمكن فهم رأيه فيها الا كنظرية ناقصة (السببية) او نظرية فعالة (الحرية) او نظرية خاطئة (الشر).
و اننى احب الغزالى لكن لا نستطيع ان نكذب على عقولنا و ضمائرنا. اذن هذه القضايا الاربعة عند الغزالى لا تنسجم مع التحليل الكلامى الجديد الذى ادعوا اليه.
و ان قضية (الخلق المتجدد او المستمر او الخلق فى الآنات) بالخصوص يجب تعويضها بما سوف اسميه (الخلق فى الاحقاب عبر التزامنية).
البداية هى فهم الغزالى ان مبدأ السببية هى ليست الا عادة تقترن فيها الاسباب بالمسببات.
أما مبدأ العادة هذا فقد فهمناه او طورناه بقولنا بمبدأى السببية و التزامنية معا.
السببية لا يمكن انكارها. الاسباب قاهرة لا شك فى ذلك. و انكار السببية يؤدى الى مشاكل ميتافيزيقية لا يمكن حلها حسب رأيى بل حسب رأى اغلبية الفلاسفة. و اكبر و اقوى مؤكد للسببية هى القوانين الفيزيائية و الفيزياء النظرية الحديثة.
اذن الاسباب مؤثرة بالفعل بل هى خالقة -خلقا من الدرجة الثانية او الثالثة- للمسببات.
لكن ايضا علينا ان لا ننسى ان الاسباب هى خلق الله سبحانه و تعالى خلقها مودعة فى الكون عندما خلق الكون اول مرة.
ومن اكبر الاسباب التى لا تتخلف ابدا هى القوانين الفيزيائية و كذا قانون التطور و قوانين الاحتمال و الفوضى و غيرها من القوانين الرياضية و كذلك القوانين البيولوجية و النفسية و الاجتماعية.
كل هذه القوانين هى مخلوقة كامنة فى الكون عندما خلق الله الكون اولا مرة.
لكن هناك ايضا -بالاضافة الى السببية- ما سماه كارل جونغ مبدأ التزامنية وهو المصادفات التى تحمل معنى و قيمة دون ان تكون مقترنة سببيا ببعضها البعض.
فالله خلق الكون و لا يتدخل فيه الا فى نقطة اساسية واحدة هى النبوات و المعجزات -التى هى اقتران تزامنى غير-سببى بين الله سبحانه و تعالى من جهة و الكون من جهة اخرى-.
ومن الاقترانات التزامنية ايضا اذكر ايضا الدعاء و الكرامة.
ولهذا فان الدعاء و الكرامة شيء نادر الاستجابة و الوجود رغم وهم الواهمين.
هما حق لا جدال فى ذلك.
لكن الاسباب هى الاغلبية الساحقة من التأثيرات الفاعلة فى الكون و الانسان و هى لا تتخلف ابدا الا نادرا جدا عند الدعاء و الكرامة.
اذن هناك اسباب حقيقية -عكس ما يقول الغزالى- و هناك ايضا تزامنيات -وهى ما يسميها الغزالى العادة-.
و من اهم تأثيرات السببية هو حرية الانسان المنظوريانية. اى ان الانسان فعلا حر حرية مطلقة و ليس حرية تواؤمية فى معلمه العطالى الميتافيزيقى اى انه حر موضعيا رغم ان الواقع كليا هو جبرى قهرى كما يريد الغزالى. وقد شرحنا هذه النظرية بالمقارنة مع مبدأ التكافؤ من النسبية العامة.
ولان الانسان حر فعلا -منظوريانيا- و هذا بالسببية الحقيقية فانه فعلا يخلق الشر.
اذن العالم خلقه الله سبحانه و تعالى ساعة تعمل بدقة و اتقان عبر القوانين الفيزيائية و البيولوجية و النفسية لا تتخلف ابدا و هذا كله ضرورى تحليليا حتى نستطيع حل معضلة الشر التى تعتمد فى حلها على حل معضلة الحرية.
هذا الرأى هو رأى ابن سينا و ابن عربى و لكن نجد ليبنيز هو افضل من عبر عن هذه الرؤية.
فالله سبحانه و تعالى لا يحتاج ان يتدخل كل آن فى خلق العالم بل هو خلقه ساعة ميكانيكية-نفسية تعمل بشكل دقيق مستمر تحكمه الاسباب التى اودعها الله فيه فى البداية.
لهذا فان الانسان حر. ولهذا فان الشر موجود -عكس ما يقول الغزالى- وهو خلق الانسان.
اذن الغزالى قال بالعادة و الحقيقة ان هناك اسباب قاهرة و تزامنيات يمكن فهمها على انها عادة.
والغزالى قال فى حرية الانسان انها تواؤمية -ما يسمى الكسب- وهذا قاصر ايضا فالحقيقة ان حرية الانسان هى منظوريانية. والفرق بين التواؤمية و المنظوريانية ان الانسان فى التواؤمية مثل العصفور الصغير الموضوع فى قفص فى الواقع اما فى المنظوريانية فان الانسان هو كائن مستقل ساقط سقوطا حرا فى الواقع لا تحده اى حدود الا الحدود الفيزيائية-و-النفسية للواقع.
وايضا فان الغزالى -متابعا فى ذلك رأى ابن سينا الذى تابع افلوطين- يقول ان الشر غير موجود وهذا عكس المشاهد تماما. الشر حقيقة موجود و هو فعل الانسان و خلقه. ولهذا فان رأى مانى الفارسى هو اقرب الى الحقيقة حيث قال ان هناك اله للخير و اله للشر لانه يقر حقيقة الشر. نحن نقول انه ليس هناك اله الا الله سبحانه و تعالى وهو خالق كل شيء خلقا على الحقيقة و هو خالق الكون و الاسباب خلقا مباشرا من الدرجة الاولى.
لكن الانسان كائن حر يخلق الشر ايضا خلقا من الدرجة الثانية بحريته المنظوريانية الحقيقية. وهذا موجود بالفعل فى قصة آدم و ابليس و قصة قابيل و هابيل.
اذن لدينا المسلمات السبعة الاساسية التالية.
اولا خلق الله الكون و اسبابه خلقا مباشرا من الدرجة الاولى بالتجلى عن عدم (ابن عربى, نظرية اساسية) او من عدم (الغزالى, نظرية فعالة).
ثانيا الانسان التطورى اى الهوموسابيانى خلقه الكون خلقا من الدرجة الثانية بالاسباب و التطور (العلم).
ثالثا خلق الله سبحانه و تعالى آدم بيده اى الخلق المباشر من الدرجة الاولى.
رابعا الانسان حر حرية منظوريانية حقيقية فى الجوار الاقرب للوعى الساقط سقوطا حرا فى الواقع.
خامسا الشر هو خلق الانسان من الدرجة الثالثة عبر حرية الارادة المنظوريانية.
سادسا نزول آدم الى ارض غير هذه الارض كان عقابا على اختيار منظورياني حر. فى هذه الارض التى نزل اليها آدم كان الانسان يعمر سنوات طويلة تبلغ قرونا بسنوات تلك الارض. لكن الشر طغى على الانسان و على هذه الارض الاخرى عبر الحرية المنظوريانية فاغرقهم الله بالطوفان -وهذا تزامنية- و لم ينج منهم الا نوح واولاده الذىين استقر بهم الفلك (السفينة الفضائية) على ظهر الجودى اى هذه الارض التى نعرفها حيث تمازج الانسان الآدمى مع الانسان الهوموسابيانى و نجم عن هذا التمازج الجنس البشرى الذى نعرفه اليوم (الحداثة التشريحية و الحداثة السلوكية).
سابعا اذن الاسباب قهرية لا تخلف فيها لكن هناك ايضا تزامنية تحكم تدخل الله سبحانه و تعالى فى هذا العالم ليس فى الآنات لكن فى الاحقاب -مثلا النبوات و المعجزات و الدعاء و الكرامة و العقاب الالهى-.

الجزء الثانى

المثقف المسلم قد يتصور ان هناك اما نظرية خاطئة او نظرية صائبة و لذا فهو ليس امامه اى خيار. وقد يتصور المثقف المسلم ايضا ان النقد او بالاحرى القراءة النقدية قد تتعارض مع الحب و الاجلال. وهذا من اضيق النظرات المعرفية التى نعانى منها.
فاننى لم اجد ابدا سيناوى يقدم نقدا لابن سينا.
و لم اجد ابدا رشدى يقدم نقدا لابن رشد.
و ابدا ابدا لم اجد تيمى يقدم نقدا لابن تيمية -بل قال لى احد هؤلاء مرة ان ابن تيمية لا يخطئ و هذا الشخص نفسه قد قال لى قبل ذلك ان صاحب الشريعة محمدا بن عبد الله صلى الله عليه و سلم غير معصوم!!!-.
نحن غزاليون ان شاء الله لكننا علميون ايضا. و الغزالى قدره عظيم جدا لا يستطيع ان يضره احد ولأنه غير معصوم فهو يخطئ -وليس كما ادعى صاحبنا ان ابن تيمية لا يخطئ-.
اذن لاننى غزالى و لاننى احب الغزالى فاننى احاول ان اقدم قراءة نقدية تسمح لنا بالانطلاق الى فهم جديد.
اذن الحب لا يتناقض مع الحرية كما قد يعتقد المثقف العربى. اذن قد نحب شخصا ما لكن هذا لا يعنى ابدا ان نفقد حريتنا فى التفكير امام هذا الشخص مهما علا قدره.
ثم نؤكد من الجهة الاخرى ان النظريات لا تنقسم فقط الى نظريات خاطئة و نظريات صائبة بل هى تنقسم الى نظريات فعالة و نظريات اساسية وهذا هو التقسيم الذى دعوت اليه سابقا.
اذن الغزالى هو يقينا نظرية فعالة لكنه ليس نظرية اساسية. و ابن عربى هو نظرية قد تكون فعلا اساسية لمن يستطيع ان يفهمها.
و قد كنا قد تكلمنا عن مفهومى (النظرية الفعالة) و (النظرية الاساسية) فيما مضى. و هو تقسيم من الفيزياء النظرية استلفته حتى اطبقه على الفلسفة الوجودية-النفسية التى ابحث فيها منذ سنوات بشكل منفرد و هاو.
واعطينا امثلة كثيرة على النظرية الفعالة نذكر منها نظرية النسبية العامة التى هى نظرية فعالة لانها لا تصلح الا فى المجال الكلاسيكى اين تكون الحقول الثقالية ضعيفة اى صغيرة بالمقارنة مع الحقول التى نجدها بالقرب من الثقوب السوداء.
اذن النظرية الفعالة هى نظرية صالحة فى مجال او نطاق معين.
بعبارة اخرى يمكن القول -ولو بتحفظ شديد- النظرية الفعالة هى نظرية تقريبية.
الحقيقة ان الطريقة التى تقدم بها الفيزياء النظرية مفهوم النظرية الفعالة عبر معادلة اعادة الاستنظام تجعل النظرية الفعالة نظرية صحيحة تماما فى مجالها و قد نظلمها اذا اطلقنا عليها اسم التقريبية.
عند الخروج من نطاق او مجال تطبيق النظرية الفعالة فانه يجب تعويض هذه الاخيرة بنظرية اخرى فى المجال الاوسع وهذه هى التى تسمى النظرية الاساسية.
اذن النظرية الاساسية هى نظرية اكثر دقة من النظرية الفعالة و هى تطبق فى مجال اوسع. وعموما هناك تناهى للنظرية الاساسية نحو النظرية الفعالة عندما يتناهى مجال التطبيق من الاوسع الى الاضيق.
وقد يكون وراء المجال الاوسع مجال اوسع منه لا تصلح فيه النظرية الاساسية عندها فاننا سنعرف ان هذه النظرية الاساسية ليست اساسية حقيقة بل هى فعالة فقط فى مجال معين اوسع من المجال الاول لكنه ليس هو المجال الكلى.
اذن سيكون عموما لدينا مجموعة من النظريات الفعالة كل واحدة منها افضل من التى سبقتها بمجال تطبيق اوسع حتى نصل الى النظرية الاساسية التى تطبق الى غاية مجال بلانك وهو اوسع مجال فيزيائى ممكن لان طول بلانك هو اصغر طول فيزيائى ممكن.
كمثال على ذلك فان النسبية العامة كما ذكرنا هى نظرية فعالة من اجل الحقول الثقالية الضعيفة اما النظرية الاساسية فهى نظرية الثقالة الكمومية التى تطبق الى غاية طول بلانك.
بنفس الطريقة فان النظريات الميتافيزيقية هى نظريات فعالة او نظريات اساسية.
الجميع بطبيعة الحال يعتقد انه يمتلك النظرية الاساسية لكن الحقيقة غير ذلك بالمرة.
وكمثال على ذلك نأخذ نظرية الغزالى رحمه الله. فهذه نظرية ميتافيزيقية فعالة فى الحقيقة تصلح جدا بالنسبة للمسلم السنى المتوسط.
بل اننى متيقن تماما ان الغزالى هو افضل نظرية على الاطلاق بالنسبة للمسلم السنى لانه متوازن تماما بين الكلام و السلف و التصوف و بين العقل و النقل و الكشف يعرف قدرهم تماما.
لكن الغزالى يبقى نظرية فعالة. لانه كما بينا فى منشور البارحة و غيره مما كتبنا سابقا فانه عندما ننظر الى مجال تطبيق نظرية الغزالى نظرة ضغط و تدقيق نقديان فاننا نجد انه لا يمتد امتدادا كافيا.
و قد اقترحنا فيما سبق ان نظرية ابن عربى هى نظرية اكثر اساسية من نظرية الغزالى يمكن للمسلم السنى غير-المتوسط ان يتبناها. وهذا رأى صحيح.
لكن انطولوجيا و كوسمولوجيا و ابستيمولوجيا ابن عربى هى نظرية ميتافيزقية كشفية اكثر منها نفسية تحليلة و نحن بحاجة الى النفسى اكثر من الميتافيزيقى و لهذا دعوت الى البحث عن نظرية فلسفية اساسية جديدة -دعنا نسميها علم كلام النفس- تنطلق من الغزالى و تقفز مباشرة الى المعرفة الحديثة من الوجودية و علم النفس و الفيزياء النظرية و العلم الطبيعى بصفة عامة.
اذن عندما نقدم نقدا للغزالى فهو نقد موضوعى لاننى نحبه و ليس انتقاد كما قد يفهمه المثقف المسلم الذى تعود على الانتقاد السلبى و تعود على فهم النقد على انه رفض.
نحن بكل بساطة نهدف الى البحث عن نظرية اساسية تنطلق من الغزالى الذى هو وسط الاسلام تستطيع ان تفسر هذا العالم الحديث.

No comments:

Post a Comment