LATEX

ديراك و فون نيومان

من اعظم الفيزيائيين النظريين بل من اعظم الفيزيائين على الاطلاق هو الانجليزى بول ديراك Paul Dirac المولود عام 1902.
و ديراك هو فى مصاف آباء الفيزياء نيوتن و بولتزمان و اينشتاين فهو يوضع معهم فى خانتهم.
و من اعظم الرياضيين فى التاريخ هو المجرى-الامريكى جون فون نيومان John von Neumann المولود عام 1903.
وفون نيومان هو فى مصاف آباء الرياضيات غوس و ريمان و هيلبرت فهو يوضع معهم فى خانتهم.
وديراك هو رياضى ايضا بأتم معنى الكلمة.
وفون نيومان هو فيزيائى ايضا بأتم معنى الكلمة.
واول كتابين بخصوص اعظم علوم الفيزياء (الميكانيك الكمومى) هما:
- كتاب ديراك المعنون (مبادئ الميكانيك الكمومى principles of quantum mechanics) الصادر عام 1930.
-و كتاب فون نيومان المعنون (الاسس الرياضية للميكانيك الكمومى mathematical foundations of quantum mechanics) الصادر عام 1932.
اكتشافات بول ديراك فى الميكانيك الكمومى و فى الفيزياء الكمومية و فى الرياضيات لا تعد و لا تحصى و نحن لا نبالغ.
اما اكتشافات فون نيومان فى الفيزياء و الرياضيات و الحاسوبية فهى الاخرى لا تعد و لا تحصى و نحن لا نبالغ.
اذن حتى لو حاولنا احصاء و جرد انجازات الرجلين فاننا لا و لن نستطيع و الامر يحتاج فى الحقيقة الى مختص بليغ متمكن عبقرى فى تاريخ الفيزياء و الرياضيات.
لكن فى هذا الكتاب بالخصوص فان ديراك كان مهتما بالفيزياء و مبادئها و قد ادى اهتمامه هذا الى اكتشافه لشيئين عظيمين فى الرياضيات (بعض النظر عن الفيزياء):
- اولا نظرية التوزيع theory of distribution و مثال على التوزيعات هى دالة دلتا ديراك Dirac delta function المشهورة التى كان يضحك عليها فون نيومان.
-ثانيا لكن اهم من هذا هو مناقشة ديراك فى فصل بأكمله لما يسميه (الشرط الكمومى quantum condition) اى ماهى القواعد العامة من اجل الانتقال من جملة كلاسكيية موصوفة بالميكانيك الكلاسيكى الى الجملة الكمومية المقابلة.
هذا موضوع شائك جدا و هو يتعلق بطبيعة الهندسة التى تؤسس لفضاء هيلبرت Hilbert space و ماهى علاقتها بالهندسة السمبليكتية symplectic geometry المؤسسة للميكانيك الكلاسيكى و كذا طبيعة النهاية الكلاسيكية classical limit اى كيف نرجع من الميكانيك الكمومى الى الميكانيك الكلاسيكى و متى ننجح فى ذلك.
هذا موضوع عميق جدا جدا يمس اسس الميكانيك الكمومى و اسس نظرية الحقول الكمومية و اسس نظرية الثقالة الكمومية (التى مازالت مجهولة) و هو موضوع مازال لم يحسم بعد (ابحثوا فى الامر فهو امر ممتع جدا جدا فى الفيزياء النظرية).
من الجهة الاخرى فاننا لا نتوقع ان يكون فون نيومان اقل عبقرية من ديراك فهو قدم فى كتابه و بشكل دقيق فيزيائيا قبل رياضيا اربعة اشياء عظيمة اخرى هى:
-اولا نظرية الرصد و القياس فى الميكانيك الكمومى التى تسمى نظرية القياس الاسقاطى theory of projective measurement حيث ميز فون نيومان تماما بين عملية القياس او الرصد من جهة و عملية التطور الاحادى unitary evolution فى الزمن لدالة الموجة من جهة اخرى.
-ثانيا اكثر من هذا فان فون نيومان حدد بالضبط المحتوى المنطقى للميكانيك الكمومى وهو المنطق الكمومى quantum logic الذى يعتمد على جبريات المسقطات algebra of projectors فى فضاء هيلبرت مثلما ان المنطق الكلاسيكى يعتمد على جبريات بول Boole algebras للمجموعات.
-ثالثا ومن اكتشافات فون نيومان ايضا انطروبى المعلومات information entropy و يسمى ايضا انطروبى فون نيومان و الذى يقابل الانطروبى الحرارى thermal entropy او انطروبى بولتزمان و هذا فى اطار اكتشافه لنظرية ضخمة جدا فى الميكانيك الكمومى تسمى نظرية مصفوفة الكثافة theory of density matrix.
-رابعا اكثر من هذا فان فون نيومان قدم اول برهان ضد نظريات المتغيرات المخفية hidden variables theory التى جاء بها اينشتاين كتفسير للميكانيك الكمومى لكن لم يصدقه احد (اى ان فون نيومان على جلال قدره لم يصدقه احد اما اينشتاين فقد صدقه الجميع) و بعضهم تجرأ و خطأ فون نيومان حتى جاء جون بال John Bell بعده ب 30 سنة و قدم البرهان النهائى ضد المتغيرات المخفية (اى ضد واقعية الواقع) المعروف باسم مبرهنة بال او متراجحة بال.
اذن فون نيومان رأى بعمق رياضى خطأ اينشتاين مثلما ان بوهر رأى بعمق فيزيائى خطأ اينتشاين فى النظريات الواقعية للمتغيرات المخفية و انتظر الجميع حتى جاء بال و حسم الامر رياضيا و فيزيائيا ثم تجريبيا.
اذن فون نيومان قدم فهم اساسى غير مسبوق للميكانيك الكمومى بنظرية القياس و المنطق الكمومى و براهين اللاواقعية (عدم وجود المتغيرات المخفية) و عليه فهو اول من وضع اللبنات الاولى فى فلسفة الميكانيك الكمومى.
اما ديراك فكما انه من الآباء المؤسسين للميكانيك الكمومى فهو من الآباء المؤسسين للميكانيك الكمومى النسبى و من الآباء المؤسسين لنظرية الحقول الكمومية و من الآباء المؤسسين للميكانيك الكمومى الاحصائى.
ديراك بدون اى مبالغة (مع هايزنبرغ و باولى و شرودينغر و بورن و آباهم و اب الميكانيك الكمومى بوهر) قاموا بكل شيء تقريبا فى الميكانيك الكمومى.
اذن اذا كان ديراك قدم التأصيل الفيزيائى و الفهم الهندسى للميكانيك الكمومى فان فون نويمان قدم التأصيل الميتافيزيقى و الفهم المنطقى للميكانيك الكمومى.
واذا كان فون نيومان قد يضحك على رياضيات ديراك فان ديراك اكتشف فى الرياضيات ما يلى:
-اولا التحليل الدالى functional analysis (نظرية التوزيع distribution theory التى ذكرناها اعلاه و نظرية المقياس measure theory او على الاقل اكتشف دورهما فى الفيزياء النظرية).
-ثانيا جبريات المؤثرات operator algebras و فضاء هيلبرت Hilbert space الذى ذكرناه اعلاه.
-ثالثا جبريات كليفورد Clifford algebras (المعروفة عندنا فى الفيزياء النظرية بجبريات ديراك).
-رابعا الحزم السبينورية spinor bundles (المعروفة عندنا بمعادلة ديراك) و الحزم الرئيسية principal bundles (المعروفة عندنا بالحقل الكهرومغناطيسى).
-خامسا الطوبولوجيا (بأول مثال فيزيائى هو المونوبول المغناطيسى magnetic monopole او احادى القطب المغناطيسى)
-سادسا هندسة و تكميم الجمل المقيدة constrained systems (المعروفة عندنا بتكميم النظريات المعيارية gauge theories و النسبية العامة general relativity التى هى نظريات مقيدة ولهذا فهى صعبة جدا و بالخصوص فان النسبية العامة هى نظرية مقيدة مع انعدام الهاميلتونية Hamiltonian وهذا ما يجعلها نظرية كلاسيكية فريدة من نوعها و تكميمها quantization من اصعب ما يكون).
اما فون نيومان كرياضى فان نظرته فى دور فضاء هيلبرت كانت هى الاساس الذى اعتمده الجميع فيما بعد و هو ما يؤدى بشكل طبيعى الى المنطق الكمومى للفضاءات الجزئية لفضاء هيلبرت المعروف باسم منطق الشبكات الأرطو-معيارية orthomodular lattices.
و كخلاصة نذكر ان الميكانيك الكمومى كنظرية فيزيائية و كنظرية رياضية و كنظرية ميتافيزيقية يعتمد على مجموعة من البديهيات تسمى اليوم بديهيات ديراك-فون-نيومان Dirac-von-Neumann axioms.
نختم بكلمة حول الايمان و الموت عند الرجلين.
كلا الرجلان كان اغنوسيا قريب الى عدم الايمان.
لكن ديراك عمر طويلا اما فون نيومان فقد واجه الموت رجلا شابا وهذا ما جعل موقفها من الايمان يكون مختلفا بشكل كبير.
ديراك كان لا يؤمن بوجود الله لكن لا يستبعد وجود الله و كدليل مقبول على هذه الامكانية يقول انه يجب فقط ان يأتى احد و يبين ان انبعاث الحياة فى الكون البدائى بشكل تلقائى هى عملية مستحيلة او باحتمال ضئيل جدا.
اذا كان بالفعل هذا الانبعاث التلقائى للحياة مستحيلا فان ديراك سوف يُقر بأن الله يجب ان يكون موجودا.
اما عموما فان ديراك كان ضد فكرة الدين و بالخصوص ضد التسييس المشاهد و المعروف للتدين و لفكرة الدين نفسها وفى العموم هو كان غير مؤمن يميل الى الاغنوسية فى آخر حياته.
حتى ان باولى وهو كاثوليكى مؤمن فى نقاش له مع هايزنبرغ و ديراك قال متهكما على ديراك (لا يوجد اله فى الكون و بول ديراك هو رسوله).
بنفس الطريقة فان فون نيومان كان اغنوسيا اقرب الى عدم الايمان بالله لكنه أصيب وهو مازال فى الخمسينات من العمر بمرض السرطان الذى تسبب له فيه عمله بمشروع مانهاتن فى الحرب العالمية الثانية.
وقد كان مرتعبا جدا من النهاية و الموت فى الاخير.
وحتى تطمئن نفسه فان فون نيومان عاود و استرجع ايمانه الكاثوليكى (باستخدام رهان باسكال) لكن لم يكن ذلك كافيا فى تحقيق الطمأنينة حسب القس الذى كان قائما عليه و حسب اهله و كتاب سيرته.
اذن عودة فون نيومان بعد مرضه الى الايمان اعتمادا على رهان لم يكن كافيا من اجل تحقيق الطمأنينة التى كان ينشدها فى مواجهة الموت و توفى مرعوبا حسب جميع الروايات.
على ما يبدو فان ايمانه فى آخر عمره لم يكن بالعمق الكافى و تعويله على باسكال هو من باب الرهان فعلا (وهذا غير كافى بالمرة) و ليس من او عن اقتناع حقيقى بعقلانية و برهانية رهان باسكال.





No comments:

Post a Comment