LATEX

الحل الميتافيزيقى ما بعد-الغزالى

الجزء الاول 

من نظريات الغزالى الشهيرة جدا التى لا تنسجم بالمرة مع مبدأ السببية و حرية الانسان و معضلة الشر هو ما يسمى (الخلق فى الآنات) او ما يسمى (الخلق المستمر) او (الخلق المتجدد).

ولأن الله يخلق الخير و الشر فان الله يخلق الشر فى الآنات متجددا و مستمرا.
اذن حسب الغزالى فان الله يجدد خلق الكون و الوعى و الاقتران بينهما (الذى هو المنظوريانية) بشكل مستمر اى فى كل لحظة زمنية من وجود هذا العالم فان هذا العالم يخلق جديدا بارادة الله سبحانه و تعالى القاهرة فوق كل شيء.
فهذا الكون الذى نراه قديما عمره 14 مليار سنة هو فى حقيقته جديد الخلق قد خلقه الله الآن فى التو و الحين. ثم فى الآن الموالى فان الله يخلق هذا الكون مرة اخرى على الحالة التى كان عليها فى الآن السابق وهكذا الى ما لانهاية.
ولو ترك الله خلق الكون لتلاشى الكون و لما استطاع الاستمرار فى الزمن مستقلا عن ارادة الله.
فان ارادة الله تلعب دورا قاهرا فى نظرية الغزالى.
هذه النظرية (الخلق المتجدد او المستمر) كما بينت فى كل كتاباتى فى السنوات الماضية لا تتلائم تماما مع مبدأ السببية و مع حرية الانسان و مع معضلة الشر.
بل ان هذه الثلاثة (السببية و الحرية و الشر) هى بالضبط المعضلات الاساسية التى يقصر فيها رأى الغزالى عن الحقيقة و لا يمكن فهم رأيه فيها الا كنظرية ناقصة (السببية) او نظرية فعالة (الحرية) او نظرية خاطئة (الشر).
و اننى احب الغزالى لكن لا نستطيع ان نكذب على عقولنا و ضمائرنا. اذن هذه القضايا الاربعة عند الغزالى لا تنسجم مع التحليل الكلامى الجديد الذى ادعوا اليه.
و ان قضية (الخلق المتجدد او المستمر او الخلق فى الآنات) بالخصوص يجب تعويضها بما سوف اسميه (الخلق فى الاحقاب عبر التزامنية).
البداية هى فهم الغزالى ان مبدأ السببية هى ليست الا عادة تقترن فيها الاسباب بالمسببات.
أما مبدأ العادة هذا فقد فهمناه او طورناه بقولنا بمبدأى السببية و التزامنية معا.
السببية لا يمكن انكارها. الاسباب قاهرة لا شك فى ذلك. و انكار السببية يؤدى الى مشاكل ميتافيزيقية لا يمكن حلها حسب رأيى بل حسب رأى اغلبية الفلاسفة. و اكبر و اقوى مؤكد للسببية هى القوانين الفيزيائية و الفيزياء النظرية الحديثة.
اذن الاسباب مؤثرة بالفعل بل هى خالقة -خلقا من الدرجة الثانية او الثالثة- للمسببات.
لكن ايضا علينا ان لا ننسى ان الاسباب هى خلق الله سبحانه و تعالى خلقها مودعة فى الكون عندما خلق الكون اول مرة.
ومن اكبر الاسباب التى لا تتخلف ابدا هى القوانين الفيزيائية و كذا قانون التطور و قوانين الاحتمال و الفوضى و غيرها من القوانين الرياضية و كذلك القوانين البيولوجية و النفسية و الاجتماعية.
كل هذه القوانين هى مخلوقة كامنة فى الكون عندما خلق الله الكون اولا مرة.
لكن هناك ايضا -بالاضافة الى السببية- ما سماه كارل جونغ مبدأ التزامنية وهو المصادفات التى تحمل معنى و قيمة دون ان تكون مقترنة سببيا ببعضها البعض.
فالله خلق الكون و لا يتدخل فيه الا فى نقطة اساسية واحدة هى النبوات و المعجزات -التى هى اقتران تزامنى غير-سببى بين الله سبحانه و تعالى من جهة و الكون من جهة اخرى-.
ومن الاقترانات التزامنية ايضا اذكر ايضا الدعاء و الكرامة.
ولهذا فان الدعاء و الكرامة شيء نادر الاستجابة و الوجود رغم وهم الواهمين.
هما حق لا جدال فى ذلك.
لكن الاسباب هى الاغلبية الساحقة من التأثيرات الفاعلة فى الكون و الانسان و هى لا تتخلف ابدا الا نادرا جدا عند الدعاء و الكرامة.
اذن هناك اسباب حقيقية -عكس ما يقول الغزالى- و هناك ايضا تزامنيات -وهى ما يسميها الغزالى العادة-.
و من اهم تأثيرات السببية هو حرية الانسان المنظوريانية. اى ان الانسان فعلا حر حرية مطلقة و ليس حرية تواؤمية فى معلمه العطالى الميتافيزيقى اى انه حر موضعيا رغم ان الواقع كليا هو جبرى قهرى كما يريد الغزالى. وقد شرحنا هذه النظرية بالمقارنة مع مبدأ التكافؤ من النسبية العامة.
ولان الانسان حر فعلا -منظوريانيا- و هذا بالسببية الحقيقية فانه فعلا يخلق الشر.
اذن العالم خلقه الله سبحانه و تعالى ساعة تعمل بدقة و اتقان عبر القوانين الفيزيائية و البيولوجية و النفسية لا تتخلف ابدا و هذا كله ضرورى تحليليا حتى نستطيع حل معضلة الشر التى تعتمد فى حلها على حل معضلة الحرية.
هذا الرأى هو رأى ابن سينا و ابن عربى و لكن نجد ليبنيز هو افضل من عبر عن هذه الرؤية.
فالله سبحانه و تعالى لا يحتاج ان يتدخل كل آن فى خلق العالم بل هو خلقه ساعة ميكانيكية-نفسية تعمل بشكل دقيق مستمر تحكمه الاسباب التى اودعها الله فيه فى البداية.
لهذا فان الانسان حر. ولهذا فان الشر موجود -عكس ما يقول الغزالى- وهو خلق الانسان.
اذن الغزالى قال بالعادة و الحقيقة ان هناك اسباب قاهرة و تزامنيات يمكن فهمها على انها عادة.
والغزالى قال فى حرية الانسان انها تواؤمية -ما يسمى الكسب- وهذا قاصر ايضا فالحقيقة ان حرية الانسان هى منظوريانية. والفرق بين التواؤمية و المنظوريانية ان الانسان فى التواؤمية مثل العصفور الصغير الموضوع فى قفص فى الواقع اما فى المنظوريانية فان الانسان هو كائن مستقل ساقط سقوطا حرا فى الواقع لا تحده اى حدود الا الحدود الفيزيائية-و-النفسية للواقع.
وايضا فان الغزالى -متابعا فى ذلك رأى ابن سينا الذى تابع افلوطين- يقول ان الشر غير موجود وهذا عكس المشاهد تماما. الشر حقيقة موجود و هو فعل الانسان و خلقه. ولهذا فان رأى مانى الفارسى هو اقرب الى الحقيقة حيث قال ان هناك اله للخير و اله للشر لانه يقر حقيقة الشر. نحن نقول انه ليس هناك اله الا الله سبحانه و تعالى وهو خالق كل شيء خلقا على الحقيقة و هو خالق الكون و الاسباب خلقا مباشرا من الدرجة الاولى.
لكن الانسان كائن حر يخلق الشر ايضا خلقا من الدرجة الثانية بحريته المنظوريانية الحقيقية. وهذا موجود بالفعل فى قصة آدم و ابليس و قصة قابيل و هابيل.
اذن لدينا المسلمات السبعة الاساسية التالية.
اولا خلق الله الكون و اسبابه خلقا مباشرا من الدرجة الاولى بالتجلى عن عدم (ابن عربى, نظرية اساسية) او من عدم (الغزالى, نظرية فعالة).
ثانيا الانسان التطورى اى الهوموسابيانى خلقه الكون خلقا من الدرجة الثانية بالاسباب و التطور (العلم).
ثالثا خلق الله سبحانه و تعالى آدم بيده اى الخلق المباشر من الدرجة الاولى.
رابعا الانسان حر حرية منظوريانية حقيقية فى الجوار الاقرب للوعى الساقط سقوطا حرا فى الواقع.
خامسا الشر هو خلق الانسان من الدرجة الثالثة عبر حرية الارادة المنظوريانية.
سادسا نزول آدم الى ارض غير هذه الارض كان عقابا على اختيار منظورياني حر. فى هذه الارض التى نزل اليها آدم كان الانسان يعمر سنوات طويلة تبلغ قرونا بسنوات تلك الارض. لكن الشر طغى على الانسان و على هذه الارض الاخرى عبر الحرية المنظوريانية فاغرقهم الله بالطوفان -وهذا تزامنية- و لم ينج منهم الا نوح واولاده الذىين استقر بهم الفلك (السفينة الفضائية) على ظهر الجودى اى هذه الارض التى نعرفها حيث تمازج الانسان الآدمى مع الانسان الهوموسابيانى و نجم عن هذا التمازج الجنس البشرى الذى نعرفه اليوم (الحداثة التشريحية و الحداثة السلوكية).
سابعا اذن الاسباب قهرية لا تخلف فيها لكن هناك ايضا تزامنية تحكم تدخل الله سبحانه و تعالى فى هذا العالم ليس فى الآنات لكن فى الاحقاب -مثلا النبوات و المعجزات و الدعاء و الكرامة و العقاب الالهى-.

الجزء الثانى

المثقف المسلم قد يتصور ان هناك اما نظرية خاطئة او نظرية صائبة و لذا فهو ليس امامه اى خيار. وقد يتصور المثقف المسلم ايضا ان النقد او بالاحرى القراءة النقدية قد تتعارض مع الحب و الاجلال. وهذا من اضيق النظرات المعرفية التى نعانى منها.
فاننى لم اجد ابدا سيناوى يقدم نقدا لابن سينا.
و لم اجد ابدا رشدى يقدم نقدا لابن رشد.
و ابدا ابدا لم اجد تيمى يقدم نقدا لابن تيمية -بل قال لى احد هؤلاء مرة ان ابن تيمية لا يخطئ و هذا الشخص نفسه قد قال لى قبل ذلك ان صاحب الشريعة محمدا بن عبد الله صلى الله عليه و سلم غير معصوم!!!-.
نحن غزاليون ان شاء الله لكننا علميون ايضا. و الغزالى قدره عظيم جدا لا يستطيع ان يضره احد ولأنه غير معصوم فهو يخطئ -وليس كما ادعى صاحبنا ان ابن تيمية لا يخطئ-.
اذن لاننى غزالى و لاننى احب الغزالى فاننى احاول ان اقدم قراءة نقدية تسمح لنا بالانطلاق الى فهم جديد.
اذن الحب لا يتناقض مع الحرية كما قد يعتقد المثقف العربى. اذن قد نحب شخصا ما لكن هذا لا يعنى ابدا ان نفقد حريتنا فى التفكير امام هذا الشخص مهما علا قدره.
ثم نؤكد من الجهة الاخرى ان النظريات لا تنقسم فقط الى نظريات خاطئة و نظريات صائبة بل هى تنقسم الى نظريات فعالة و نظريات اساسية وهذا هو التقسيم الذى دعوت اليه سابقا.
اذن الغزالى هو يقينا نظرية فعالة لكنه ليس نظرية اساسية. و ابن عربى هو نظرية قد تكون فعلا اساسية لمن يستطيع ان يفهمها.
و قد كنا قد تكلمنا عن مفهومى (النظرية الفعالة) و (النظرية الاساسية) فيما مضى. و هو تقسيم من الفيزياء النظرية استلفته حتى اطبقه على الفلسفة الوجودية-النفسية التى ابحث فيها منذ سنوات بشكل منفرد و هاو.
واعطينا امثلة كثيرة على النظرية الفعالة نذكر منها نظرية النسبية العامة التى هى نظرية فعالة لانها لا تصلح الا فى المجال الكلاسيكى اين تكون الحقول الثقالية ضعيفة اى صغيرة بالمقارنة مع الحقول التى نجدها بالقرب من الثقوب السوداء.
اذن النظرية الفعالة هى نظرية صالحة فى مجال او نطاق معين.
بعبارة اخرى يمكن القول -ولو بتحفظ شديد- النظرية الفعالة هى نظرية تقريبية.
الحقيقة ان الطريقة التى تقدم بها الفيزياء النظرية مفهوم النظرية الفعالة عبر معادلة اعادة الاستنظام تجعل النظرية الفعالة نظرية صحيحة تماما فى مجالها و قد نظلمها اذا اطلقنا عليها اسم التقريبية.
عند الخروج من نطاق او مجال تطبيق النظرية الفعالة فانه يجب تعويض هذه الاخيرة بنظرية اخرى فى المجال الاوسع وهذه هى التى تسمى النظرية الاساسية.
اذن النظرية الاساسية هى نظرية اكثر دقة من النظرية الفعالة و هى تطبق فى مجال اوسع. وعموما هناك تناهى للنظرية الاساسية نحو النظرية الفعالة عندما يتناهى مجال التطبيق من الاوسع الى الاضيق.
وقد يكون وراء المجال الاوسع مجال اوسع منه لا تصلح فيه النظرية الاساسية عندها فاننا سنعرف ان هذه النظرية الاساسية ليست اساسية حقيقة بل هى فعالة فقط فى مجال معين اوسع من المجال الاول لكنه ليس هو المجال الكلى.
اذن سيكون عموما لدينا مجموعة من النظريات الفعالة كل واحدة منها افضل من التى سبقتها بمجال تطبيق اوسع حتى نصل الى النظرية الاساسية التى تطبق الى غاية مجال بلانك وهو اوسع مجال فيزيائى ممكن لان طول بلانك هو اصغر طول فيزيائى ممكن.
كمثال على ذلك فان النسبية العامة كما ذكرنا هى نظرية فعالة من اجل الحقول الثقالية الضعيفة اما النظرية الاساسية فهى نظرية الثقالة الكمومية التى تطبق الى غاية طول بلانك.
بنفس الطريقة فان النظريات الميتافيزيقية هى نظريات فعالة او نظريات اساسية.
الجميع بطبيعة الحال يعتقد انه يمتلك النظرية الاساسية لكن الحقيقة غير ذلك بالمرة.
وكمثال على ذلك نأخذ نظرية الغزالى رحمه الله. فهذه نظرية ميتافيزيقية فعالة فى الحقيقة تصلح جدا بالنسبة للمسلم السنى المتوسط.
بل اننى متيقن تماما ان الغزالى هو افضل نظرية على الاطلاق بالنسبة للمسلم السنى لانه متوازن تماما بين الكلام و السلف و التصوف و بين العقل و النقل و الكشف يعرف قدرهم تماما.
لكن الغزالى يبقى نظرية فعالة. لانه كما بينا فى منشور البارحة و غيره مما كتبنا سابقا فانه عندما ننظر الى مجال تطبيق نظرية الغزالى نظرة ضغط و تدقيق نقديان فاننا نجد انه لا يمتد امتدادا كافيا.
و قد اقترحنا فيما سبق ان نظرية ابن عربى هى نظرية اكثر اساسية من نظرية الغزالى يمكن للمسلم السنى غير-المتوسط ان يتبناها. وهذا رأى صحيح.
لكن انطولوجيا و كوسمولوجيا و ابستيمولوجيا ابن عربى هى نظرية ميتافيزقية كشفية اكثر منها نفسية تحليلة و نحن بحاجة الى النفسى اكثر من الميتافيزيقى و لهذا دعوت الى البحث عن نظرية فلسفية اساسية جديدة -دعنا نسميها علم كلام النفس- تنطلق من الغزالى و تقفز مباشرة الى المعرفة الحديثة من الوجودية و علم النفس و الفيزياء النظرية و العلم الطبيعى بصفة عامة.
اذن عندما نقدم نقدا للغزالى فهو نقد موضوعى لاننى نحبه و ليس انتقاد كما قد يفهمه المثقف المسلم الذى تعود على الانتقاد السلبى و تعود على فهم النقد على انه رفض.
نحن بكل بساطة نهدف الى البحث عن نظرية اساسية تنطلق من الغزالى الذى هو وسط الاسلام تستطيع ان تفسر هذا العالم الحديث.

المؤمنون و العلميون و غرورهم

 الانسان المسلم المثقف المفكر الحر اليوم -خاصة العربى منه- واقع بين المطرقة و السندان.

فمن جهة هو يتعرض الى استعلاء و تباهى المؤمنين بالسلف لانه لا يشاركهم قوة ايمانهم بالمعرفة النقلية الاجترارية التى جثمت علي صدورهم فهى -اى هذه المعرفة- على التحقيق ليست بشيء بدون ظابط العقل و العلم.
ومن جهة اخرى هو يتعرض الى غرور و تعالى اذكياء العلم لانه لا يشاركهم قوة الموهبة التى يتمتعون و ينجزون بها و التى لن تؤدى الى شيء ذى بال بدون ضابط الايمان.
على الانسان المسلم ان يتمتع بالثقة و يثبت -ثبتكم الله ان شاء الله- و يحاول ان لا يتأثر بالايمان الاخرق و العلم الاجوف لهؤلاء المغرورين. فانه حتى لو كان ايمان و علم هؤلاء صحيح فهو ايمان و علم عقيمان لا يورثان ايمانا و علما نافعا فى غيرهم.
و على الانسان المسلم الا ييأس و يستسلم لدعاوى هؤلاء. لانه لو استسلم لدعاويهم فانه سيعيش حياته فى الشك و الخوف و الفشل و الاحساس بالنقص.
على الانسان المسلم ان يتمتع بالثقة و يتأكد ان الله قد تنعم عليه بنقص فى الايمان و نقص فى العلم معا حتى لا يقع فى ما وقع فيه هؤلاء من الاستعلاء و الغرور.
بل ان حالهم كحال المرأة الجميلة الجذابة يعتقدون ان ايمانهم و ذكائهم من عند انفسهم مثلما تعتقد تلك المرأة ان جمالها و جاذبيتها من عند نفسها و كل ذلك -ايمان و ذكاء و جمال- هو حظ من عند الله.
لكن حظ الانسان المسلم افضل لانه بقلة ايمانه و قلة علمه و قلة جماله سيعرف فضل الله عليه بشكل اكبر من هؤلاء المغرورين الذين نسوا الله فانساهم الله انفسهم.
ثم ذلك المؤمن المستعلى المتباهى على خلق الله هل سيضمن له السلف الذين نسبهم الى نفسه مرتبة مرموقة عند الله سبحانه و تعالى. و اذا كان محمدا صلى الله عليه و سلم لم يكن ضامنا المقام المحمود لعلمه الحقيقى و المباشر -بالوحى- حقيقة و قدر الله سبحانه و تعالى فكيف يضمن غيره ما سيقع لهم بعد الموت مهما تمسحوا بالعلماء من السلف و غيرهم. هل برهان هؤلاء الذى هم به فارحون اقوى من برهان الوحى الذى هو بين يدى الرسول صلى الله عليه و سلم.
ثم ذلك الذكى فى العلم المغرور المتعالى على خلق الله ماذا حقق فعلا. هل مثلا حقق فهما و كشفا سبق به عباقرة العلم الكبار من كانط و هيوم و نيوتن و اينشتاين و ريمان و غوس و باستور و غيرهم. وحتى لو كانت عبقرية ذلك الذكى المغرور فى مرتبة هؤلاء العباقرة الحقيقيين هل كان ذلك سيغير فى مصيره المحتوم من الموت. فهل غيرت مثلا عبقرية نيوتن و اينتشاين فى مصيرهما من الموت. فان المؤكد ان لا احد يدرى ماذا سيحدث له بعد الموت حين لا تنفع حينها لا عبقرية و لا اى شيء آخر.
المؤمن المسلم عليه ان يتحلى بالثقة امام ايمان و علم هؤلاء المغرورين من المزيفين و غير المزيفين.
فالغرور -ومن علاماته حب الجدل و المراء و محاولة فرض الرأى ونسبة نعم الله الى النفس- مرفوض مهما كان مصدره.
وعلى المسلم ان يرفض غرور المؤمنين بالبحث عن الوسط و الوقوف مع المتواضعين اينما كانوا.
والوسط هم الجمهور من اهل السنة و الجماعة فى التاريخ و الحاضر -القبول بالكلام و اجلال الحديث و توقير التصوف- فهم لا يجتمعون على باطل باجماع من يعتد باجماعهم.
و من وقف وحده فهو منحرف مهما علا قدره او اوهمونا بعلو قدره ومهما تمسح بالسلف. فالسلف هم بداية اهل السنة و الجماعة و لم يكن السلف ابدا بداية الانحراف (لكن المنحرفون اوهموا الناس انه بداية انحرافهم و صدقهم الناس فى ذلك).
و على المسلم ايضا ان يرفض غرور الاذكياء فى العلم و الفلسفة و الوقوف مع حقيقة العلم و الفلسفة التى سيجدها فى رأى الجمهور من اهل العلم و الفلسفة فهم ايضا لا يجتمعون على باطل وهذا من طبيعة الطريقة العلمية النقدية لوحدها.
وافضل طريق يتبعه المسلم فى رفض غرور المؤمنين و الاذكياء بل افضل طريق يحمى به المسلم نفسه من استعلاء و تعالى هؤلاء المغرورين هو محاولة العيش بصدق و امانه و الابتعاد عن الغضب -وهذا من اصعب الامور- و محاولة العيش بسعادة مع سلام الاسلام و العلم و التسليم بحقيقة الاسلام و العلم فى آن معا.
اذن اخذروا هؤلاء المغرورين من المؤمنين و الاذكياء وهم كثر جدا و اذا سمحتم لهم بالدخول الى وعيكم فانه ذلك سيورث شكا و خوفا و احساس بالنقص شديد.
اذن احذروا ثم احذروا من هؤلاء الاشرار (فهم فعلا اشرار يلعبون فى هذه الارض بالنسبة للانسان الدور الذى لعبه الشيطان بالنسبة لآدم فى الجنة).
فهؤلاء الاشرار المغرورين لا يهمهم لا الدين و لا العلم و كل همهم هو الهيمنة على الدين و العلم و الانسان المسلم و غير المسلم.

حل معضلة الموت

الجزء الاول 

و واحد من اسباب اهتمامى بالثقوب السوداء هو انها تقدم نموذج نظرى صريح للموت و كيفية البعث.

وفى هذا المنشور سوف اقدم حل صريح لمعضلة الموت -وهذا حل معضلة كبرى اخرى بعد الحل الذى قدمناه لمعضلتى الحرية و الشر.
اذن الثقب الاسود يتشكل من انهيار نجم على نفسه بسبب قوة الجذب الثقالى.
ثم يبدأ بالتبخر ببطئ شديد وهذا بسبب التفاعلات الكمومية.
وهذا التبخر يعنى التناقص حتى يصل الثقب الى حجم يساوى صفر.
اذن كل تلك المادة التى سقطت بالثقب -وتمسى المعلومات- تكون قد ضاعت بعد تلاشى الثقب الاسود و تبخره بالكامل.
اذن اذا كان هذا الامر صحيحا فان الثقب الاسود هو فعلا ثقب فى الفضاء-زمن.
لكن كل هذا مرفوض بسبب خاصية للميكانيك الكمومى تسمى الاحادية. الحل ان المعلومات يجب ان تخرج من الثقب قبل ان يتلاشى الثقب بالتبخر. لكن كيف هذا هو السؤال.
اذن الروح تلعب دور المعلومات بل هى فعلا معلومات- وهى تضيع فى الموت الذى يلعب بالنسبة لها الدور الذى يلعبه الثقب الاسود بالنسبة للمعلومات.
المعلومات موجودة فى الفضاء-زمن و الثقب الاسود يقسم الفضاء-زمن الى قسمين عبر ما يسمى افق الحدث و هى كرة تحيط بالمفردة.
بنفس الطريقة فان الروح موجودة فى فضاء الأنا-و-الوعى و الموت يقسم فضاء الأنا-و-الوعى عبر ما اسميه افق الموت.
ايضا فان الثقب الاسود عند ضياع المعلومات فيه يصدر عنه فى نفس الوقت اشعاع مادى يسمى اشعاع هاوكينغ. فى الحقيقة فان المعلومات الضائعة و اشعاع هاوكينغ هما فى الحقيقة توأم مادى كمومى. وهما -اى المعلومات الضائعة و اشعاع هاوكينغ- يشكل حالة كمومية واحدة فى الفضاء-زمن يوحدها التشابك الكمومى.
بالمثل فان الموت عند ضياع الروح فيه يجب ان يصدر عنه فى نفس الوقت اشعاع روحى دعنا نسميه اشعاع الروح. الروح الضائعة فى الموت و اشعاع الروح هما توأم روحى-كمومى يشكلان معا حالة روحية-كمومية واحدة فى فضاء الأنا-و-الوعى يوحدها التشابك الروحى-الكمومى.
هنا نفترض ان الميكانيك الكمومى يطبق على الفضاء-زمن (احادية الميكانيك الكمومى) و ما سأسميه الميكانيك الروحى-الكمومى سيطبق على فضاء الأنا-و-الوعى (وحدة الوعى).
معضلة ضياع المعلومات فى الثقب الاسود ان المادة يمكنها ان تعبر افق الحدث من الخارج الى الداخل فقط و الراصد الساقط فى الثقب الاسود لن يرى اى شيء مختلف فى الفضاء-زمن عند عبوره افق الحدث و كل ما سيحدث انه لن يستطيع ان يتواصل مع الراصد الخارجى فى المالانهاية بعد ان يعبر افق الحدث.
بنفس الطريقة فان معضلة ضياع الروح فى الموت تكمن فى ان الروح تعبر افق الموت من الخارج الى الداخل فقط و الراصد الساقط فى الموت فانه يعبر مع الروح افق الموت و لن يرى اى شيء مختلف فى فضاء الأنا-و-الوعى عند عبوره افق الموت و كل ما سيحدث انه لن يستطيع ان يتواصل مع الراصد الخارجى الذى مازال حيا.
الراصد الخارجى فى حالة الثقب الاسود يعلم انه ليس هناك ضياع للمعلومات فى الثقب الاسود لان المعلومات ستعود و تخرج من الثقب الاسود عند زمن يسمى زمن بايج. المعلومات ستبدأ فى الخروج عندما يتوقف انطروبى التشابك الكمومى عن التزايد و يبدأ فى النقصان وهذا عندما يقفز ما يسمى السطح الكمومى القصوى من الصفر الى محاذاة افق حدث الثقب الاسود. و السطح الكمومى القصوى هو ما يحدد المنطقة من الفضاء-زمن التى نحسب فيها التشابك. اذن فى زمن بايج يقع تحول طورى تتغير عنده منطقة التشابك الكمومى التى تسمى حرف التشابك الكمومى من منطقة متصلة الى منطقة منفصلة.
بنفس الطريقة فان الراصد الخارجى -فى حالة الموت- يعلم انه ليس هناك ضياع للروح فى الموت لان الروح ستعود و تخرج عند زمن معين يسمى زمن البعث. الروح ستبدأ فى الخروج عندما يتوقف انطروبى التشابك الكمومى -بين الروح و اشعاع الروح- عن التزايد و يبدأ فى النقصان وهذا عندما يقفز ما سأسميه السطح الروحى-الكمومى القصوى من الصفر الى محاذاة افق الموت. و السطح الروحى-الكمومى القصوى يحدد المنطقة من فضاء الأنا-و-الوعى التى نحسب فيها التشابك الروحى-الكمومى. اذن فى زمن البعث يقع تحول طورى تتغير عنده منطقة التشابك الروحى-الكمومى التى تسمى حرف التشابك الروحى-الكمومى من منطقة متصلة الى منطقة منفصلة.
كما انه فى الثقب الاسود هناك جزيرة تحتوى المعلومات الضائعة متصلة باشعاع هاوكينغ خارج الثقب وهما يبعدان مسافة هائلة عن بعضهما البعض فى الفضاء-زمن.
فانه فى الموت هناك جزيرة -هى البرزخ- تحتوى الروح الضائعة متصلة باشعاع الروح خارج الموت -اى صدى الوعى فى الحياة- رغم انهما يبعدان عن بعضهما البعض مسافة لا يمكننا تقديرها فى فضاء الأنا-و-الوعى.

الجزء الثانى
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ والسَّماواتِ وبَرَزُوا لِلَّهِ الواحِدِ القَهّارِ -ابراهيم الآية 48-.
اذن بكل بساطة فان الارض و السماوات سوف تبدلان بأرض اخرى. هذه هى نقطة انطلاق نظرية الموت التى قدمناها منذ ايام بالمقارنة مع الثقوب السوداء.
فان الذى يحدث ان الوعى الذى يعيش فى هذا العالم و يرى هذه الارض و هذه السماوات اى كل هذه الجيولوجيا و هذه البيولوجيا وماهو اعظم منهما هذه الكوسمولوجيا التى يكتشفها الانسان يوما بعد يوم هو لا يرى -اى هذا الانسان- الا مظاهر فقط اما البواطن فهى محجوبة عنه (وهذه فكرة كانط فى المظاهر و الاشياء-فى-ذاتها).
وعندما ينتقل الوعى الى مرحلة ما اسميه اشعاع الوعى فان كل هذه الارض و هذه السماوات سوف تظهر على حقيقتها و هى ارض البعث.
اذن الارض بدلت غير الارض و السماوات لان الحجب انكشفت عن الوعى او ان الوعى تحول الى وعى ممتاز فاستطاع رؤية الحقيقة.
و كأن العالم كما قال بركلى لا يوجد الا فى ذهن الراصد الذى سوف سيرى العالم حسب ما بنيت عليه نفسيته و وعيه.
لكن افضل و ادق من رأى بركلى هو رأى الغزالى فى ان العقل طور واحد من اطوار الوعى وسوف يليه طور العقل الممتاز بعد الموت. اذن الموت حسب الغزالى هو ليس الا مرحلة تطورية سوف يخضع لها الوعى.
كما سنرى فان الانسان بعد الموت -و بالضبط بعد البعث وهذا حسب النموذج الذى سوف اطرحه هنا- سوف ينتقل من طور العقل -ما أسميه الوعى هنا- الى طور العقل الممتاز -ما اسميه هنا اشعاع الوعى- وهذا فى رأيى هو خلاصة ما ذكره الغزالى منذ 1000 سنة توصل اليه عبر تأمل عقلى-كشفى نادر اما هنا فاننى ساطرح نموذج فيزيائى-نفسى-ميتافيزيقى يتم فيه تنفيذ هذه الفكرة بشكل صريح وهذا بالمقارنة مع فيزياء الثقوب السوداء.
فى هذه المقاربة لدينا 4 افكار معقدة اساسية.
1 كما ان المعلومات المادية الساقطة فى الثقب الاسود لا تضيع فان المعلومات الروحية اى الوعى الساقط فى الموت لا يضيع.
2 المعلومات المادية الساقطة فى الثقب الاسود تعاود الخروج من الثقب بعد زمن معين يسمى زمن بايج -وبايج هو الفيزيائى الذى اقترح هذا الامر فى الثمانينات ثم اتضحت صحته فى النماذج النظرية الحديثة-.
كذلك فان المعلومات الروحية الساقطة فى الموت تعاود الخروج من الموت بعد زمن معين هو زمن البعث.
3 اذن لدينا من جهة الثقوب السوداء:
اولا ثقب اسود يتبخر اى ان الثقب الاسود يتناقص شيئا فشيئا.
ثانيا لدينا اشعاع هاوكينغ الذى خرج من الثقب قبل زمن بايج مع بداية التبخر.
ثالثا لدينا المعلومات الساقطة -التى كنا نظن انها ضائعة- التى سوف تخرج من الثقب بعد زمن بايج.
اشعاع هاوكينغ و المعلومات الساقطة هما توأم فيزيائى متشابك كموميا يوصف بحالة واحدة. المعلومات الساقطة بعد خروجها سوف تنضم الى اشعاع هاوكينغ و تصبح جزءا منه. الثقب فى حالة تناقص مستمر. و بعد تبخر الثقب اى اكتمال خروج جميع المعلومات الساقطة فان الثقب يختفى و لا يبقى لدينا الا اشعاع هاوكينغ.
اذن فى البداية قبل التبخر كان لدينا جسم مادى معين هو (الثقب الاسود) و بعد خروج جميع المعلومات من الثقب وتبخر هذا الاخير فانه سوف سيكون لدينا مادة مختلفة جذريا عن الجسم المادى الذى ابتدأنا به هى بالضبط (اشعاع هاوكينغ). الثقب الاسود الابتدائى و اشعاع هاوكينغ النهائى هما مختلفان جذريا عن بعضهما البعض لكن يحتويان على نفس المعلومات.
4 دعنا نطبق هذا الميكانيزم على الموت. الانسان (جسم مادى + وعى) يسقط فى الموت فيضيع الوعى الى حين و لا يبقى بين ايدينا الا الجسد المادى.
فى هذه المقاربة و على عكس الثقب الاسود الذى يموت عبر التبخر ببطء فان الانسان يموت بالموت دفعة واحدة.
اذن لدينا فى حالة الموت:
اولا ما سوف اسميه (ثقب الموت) الذى يشبه الثقب الاسود. الموت نفسه يشبه اكثر عملية تبخر الثقب الاسود. اذن ثقب الموت هو فى حد ذاته فى حالة تناقص.
ثانيا لدينا ذرات الجسم المادى التى هى كل ما يتبقى لدينا بعد الموت قبل زمن البعث.
ثالثا لدينا المعلومات الروحية -اى الوعى- التى سقطت فى ثقب الموت و التى سوف تخرج من ثقب الموت شيئا شيئا بعد زمن البعث. اذن الوعى حسب هذا النموذج سوف يخرج من ثقب الموت ليس دفعة واحدة لكن ببطء.
الجسم المادى فى حالة ثقب الموت هو الذى يلعب دور اشعاع هاوكينغ الاولى فى حالة الثقب الاسود.
لكن الارض سوف تبدل غير الارض و السماوات لحظة البعث.
اذن هذا الجسم المادى سوف يبدل غير الجسم المادى الذى نعرفه لحظة البعث ويتحول الى كينونة اخرى هى التى سميتها فى المنشور السابق (اشعاع الروح) لكن اسميها هنا (اشعاع الوعى).
اذن الجسم المادى سوف يبدل الى اشعاع الوعى وهذا هو الذى يلعب دور اشعاع هاوكينغ فى الحقيقة.
اشعاع الوعى و المعلومات الساقطة فى ثقب الموت -اى الوعى- هما توأم نفسى متشابك كموميا يوصف بحالة واحدة (هنا نفترض ان الميكانيك الكمومى يطبق ايضا ميتافيزيقيا).
المعلومات الساقطة بعد خروجها من ثقب الموت تتحول هى الاخرى الى اشعاع الوعى. و بعد تبخر ثقب الموت اى اكتمال خروج جميع المعلومات الروحية الساقطة فان ثقب الموت بل الموت فى حد ذاته سوف يموت و لا يبقى لدينا الا اشعاع الوعى.
اذن فى البداية قبل السقوط -فى ثقب الموت- كان لدينا (جسم مادى + وعى) وهذا هو طور العقل الذى يرى هذه الارض و هذه السماوات على الشكل الذى نعرفه لكن بعد الخروج -من ثقب الموت- فانه لدينا (اشعاع الوعى وهو وعى ممتاز) وهذا طور مختلف جذريا عن طور العقل بل هو طور يتعدى طور العقل مثلما ان العقل طور يتعدى طور التمييز و هذا الطور العقلى الممتاز هو الذى سوف يتمكن من رؤية هذه الارض و هذه السماوات على حالتهما الحقيقة.

الغزالى الصادق العبقرى و التصوف الجديد

 من اصدق المفكرين المسلمين الذين مروا عبر تاريخ الاسلام يبقى حجة الاسلام ابى حامد الغزالى.

و ذروة صدقه هى استقالته الايمانية-و-الفكرية التى ينتقده عليها الجميع.
بالنسبة لى هذه الاستقالة هى ذروة عبقرية الغزالى و ليس كما يعتقد السطحيون انها ذروة عجزه و هم العاجزون.
ففعلا لا يمكن البرهان على الحقائق الدينية بالعقل.
و لا يمكن الاكتفاء بالنقل كبرهان لانه هو نفسه يحتاج الى برهان العقل الذى اصبح غير متوفر.
العقل ليس حاسم و النقل يعتمد على العقل اذن هو ليس حاسم.
و من يعرف قليلا من الرياضيات و يعرف قليلا من المنطق الحديث و يعرف قليلا من الفيزياء النظرية فانه سيعرف فعلا ماذا نعنى بالبرهان و كيف يجب ان يكون البرهان و ما علاقة البرهان بالمبرهن عليه و ماهو الدور الذى يؤديه المبرهن فى البرهان.
من له ادنى خبرة بالفيزياء النظرية و الرياضيات فانه سيعرف بدون ادنى شك انه ليس لدينا أية براهين فى الميتافيزيقا فى مستوى قوة البراهين الهندسية و الحسابية.
وحتى البراهين التحليلية التى تفخر بها الفلسفة فانها لا يمكن ان ترقى الى مستوى البراهين الهندسية و دليل ذلك هذا الخلاف الشديد الذى نراه فى كل مسألة فلسفية يمكن ان تخطر على بالنا.
لذا توجه الغزالى الى التصوف و ابتدأ هذه الظاهرة فى الاسلام وهذا هو الذى سماه منتقدوه بالاستقالة الفكرية. و كأن التصوف هو انعدام التفكير رغم ان اعظم مفكرى الاسلام اصالة و ابداعا هم متصوفة و على رأسهم ابن عربى و الملا صدرا.
الغزالى لم يستقل فكريا بل الغزالى استقال كلاميا و فلسفيا-دينيا. وهذا فرق كبير.
وتوجه بعده اهل السنة الى التصوف و بلغ التصوف ذروته عند ابن عربى الذى بالغ فى فلسفة التصوف حتى اصبحت معرفة غمائضية لا يدرك كنهها الا القليل -ربما-.
ثم جاء آخرون وقالوا لقد توفى الغزالى و على صدره صحيح البخارى و هم بذلك يلوحون بأن الغزالى قد كان سيتحول الى مذهب اهل الحديث لو لم يمت.
و عالم و علم "لو" لا يمكن ان تنتهى ترهاته لو سمحنا لانفسنا بفتح ابوابهما.
البخارى هو سيد اهل السنة و صحيحه هو اصح كتاب كتبه انسان -وليس هو اصح كتاب بعد القرآن لانه لا مجال للمقارنة بين كلام الله و كلام الانسان حتى لو كان هذا الانسان البخارى-.
اذن كون الغزالى توفى و كتاب البخارى على صدره لا يعنى شيئا.
و رأى الغزالى فى الحنابلة و اهل الحديث من المتسلفين معروف.
ثم هل من المعقول ان من يستقيل فكريا من الكلام و فلسفة الدين لا يستقيل فكريا من فكر التسلف.
يا هل ترى من هو الاكثر تهافتا -حسب الغزالى و هو ايضا رأيى- الفلسفة بكل عظمائها العباقرة ام التسلف بكل مخرفيه السفهاء.
الحقيقة هو انه يجب ان نرجع الى الغزالى و عوض ان نغوص فى فلسفة الله و الوجود و نوغل فيها كما فعل ابن عربى علينا ان نوغل فى فلسفة النفس و الوجود و نوغل فيها مثلما فعلت فلسفة الوجودية و على رأسها دويستفسكى و نيتشة و فعل علم النفس الحديث و على رأسه كارل جونغ و ويليام جايمس (و حتى فرويد رغم نزعة هذا الاخير المادية-الميكانيكية التى لا تتزعزع).
علينا ان نقفز مباشرة من الغزالى -الذى ادرك ان الفلسفة الميتافيزيقية لا يمكنها البرهان على شيء- و نهمل ابن عربى رغم عظمته و لو الى حين -و نهمل ايضا حتى لن نضيع وقتنا ابن رشد فى اعتراضاته الجافة و ابن تيمية فى اعتراضاته الهستيرية- و نقفز مباشرة من الغزالى الفذ الى كارل جونغ و مدرسته فى علم النفس الحديث التى تهتم بفلسفة الدين كأحد أهم مقوماتها التى تقوم عليها.
ففلسفة علم النفس على طريقة كارل جونغ ادركت ان الطريق الى العالم الاخرى -الكون اولا ثم الله من وراءه- يجب ان يعبر فيه الوعى عالم اللاوعى النفسى الداخلى.
الطريق الى الخارج ثم الى الله يبدأ من الايغال فى داخل و باطن النفس -وعى ثم لاوعى- ثم الخروج من الجهة الاخرى -وهذا هو ربما ما يسميه المتصوفة الكشف- لانه كما بين الغزالى ليس هناك ارتباط مباشر -ما يسمى البرهان- بين العقل و الخارج كما يصر على ذلك المتعقلة.
هذا هو التصوف الجديد الذى ادعوا اليه.
وهو اكثر تواضعا فكريا-و-روحيا بل هو اكثر واقعية و اكثر منطقية من مقترح علم الكلام الجديد الذى اقترحته منذ سنوات و الذى اقتنعت الآن انه لن يأتى بشيء جديد مفيد يذكر لان المسألة هى ليست مسألة ذات و صفات الهية بل المسألة هى مسألة نفس و وعى انسانى.

السباندرال بين الهندسة المعمارية و البيولوجيا التطورية

 عندما نقوم برسم دائرة وسط مربع فان الأسطح الأربعة الشبيهة-بالمثلث و المرتبطة-تقريبا المحصورة بين الدائرة و المربع تسمى بالانجليزية سباندرال spandrel و بالفرنسية كوانسون coinçon.

مثلا الاقواس فى الهندسة المعمارية الاسلامية -العباسية و الفاطمية بالخصوص- تحتوى كلها على عنصر السباندرال الذى هو ليس هدف التصميم الاول لكنه امر لا يمكن ايضا تفاديه و يستخدم اذن عادة فى التزيين و المنمنمات.
فى السبعينات تبنى البيولوجى-التطورى ستيفان غاى غولد Stephen Jay Gould هذا المصطلح التقنى من الهندسة المعمارية و ادخله الى البيولوجيا التطورية evolutionary biology وهى تعنى فى هذا المجال تلك الميزات traits التى لم يتم تطويرها عبر الانتقاء الطبيعى natural selection لكنها كانت نتيجة غير مقصودة لعملية التطور.
اذن السباندرال فى البيولوجيا التطورية هى ليست ميزة ناجمة بشكل مباشر عن الانتقاء الطبيعى و التكيف adaptation بل هى خاصية للكائن البيولوجى غير مقصودة فى حد ذاتها من عملية التطور لان الكائن ليس بحاجة اليها من اجل البقاء survival لكنها خاصية ناجمة عن ميزة اخرى للكائن البيولوجى تم تطويرها عبر الانتقاء الطبيعى و التكيف.
اذن ليس كل شيء يتميز به الكائن البيولوجى نجم عن ضرورة التكيف من اجل البقاء -وهذه هى الميزات traits- بل هناك كثير من الامور هى ليست الا نتائج فرعية غير مقصودة للتطور تسمى السباندرال.
واهم مثال يعطى هو شكل ذقن الانسان. فهذا حسب الكثيرين خاصية ليس لها اى وظيفة و هى اذن ليست الا سباندرال.
و مثال آخر مذهل يعطيه نعوم تشومسكى Noam Chomsky هو اللغة. حيث ان خاصية التقطع اللانهائى discrete infinity التى تقع فى اساس قدرة الانسان على تعلم اللغة و بخاصة ما يسمى القواعد الكونية universal grammar هى ليست الا سباندرال.
هذه فكرة وجدتها مذهلة. و الذى اذهلنى اكثر ان البعض يقول ان الوعى نفسه -و اللغة جزء صغير من الوعى- هى ليست الا سباندرال ليست مقصودة فى حد ذاتها من عملية التطور وهى ليست ضرورية من اجل البقاء وانها نجمت كنتيجة غير مقصودة عن تكييف الانسان لميزات اخرى.
ملحوظة: اذكر مرة اخرى برأيى فى نظرية التطور على انها نظرية فعالة و ليست نظرية اساسية و انها اكثر من هذا لا تصلح فى التفسير الا بعيدا عن حدود المفردات التخلقية - بزوغ الكون و بزوغ الحياة و بزوغ الوعى و بزوغ العقل و بزوغ النبوة و بزوغ الانسان الكامل-.